حين يحاول النسويون أو النسويات الغربيات إدانة ظروف قهر المرأة خارج حدود الغرب بمصطلحات وُضعت لتلائم مقاييس المساواة عند نساء أوروبا وأمريكا فإن هذا بشكل غير مباشر يخدم قضية الذين يرفعون لواء التقاليد ويذوّدهم بذريعة لإرباك كل دعاوى القهر التى ترفعها نساء هذه المناطق. هذه واحدة من الحقائق التى اكتشفتها إحدى رموز النسويات الغربيات. مشكلة النسوية أنها عالمية وشمولية فى دعواها، لهذا فإنها لا يمكن أن تدافع عن «المرأة» إلا فى إطار عالمى، وأنها أى النسوية تسعى لأن تكون النساء متساويات فى الحقوق ومن ثم فإنها فى سعيها هذا تخيف القوى المحافظة فى المجتمعات التقليدية الذين يقرؤون الأمر فى ضوء أن المرأة الغربية هى مقياس أو معيار وضع المرأة المثالى أو المعيار المستهدف لنسائهم. ولأن المرأة المثالية الغربية لها أسطورة فى ذهنية القوى المحلية المحافظة، أسطورة مرتبطة بالاستقلالية والحرية ومن ثم بالقوة، فإنهم يعتبرون هذا الدفاع عن نسائهم عدوانا عليهم هم أنفسهم وعلى وضعيتهم الاجتماعية فى المجتمع الهيراركى. ولهذا فإنهم يقفون بقوة إزاء هذا العدوان المتخَيل ولا يسعهم إلا صده بأقوى الحيل وهى حيل ناجعة طوال الوقت فى مثل هذه المجتمعات، وأقصد بها حيل الدين والتقاليد، لأنهم يعرفون جيدا أن خلخلة وضعية الرجل بالنسبة للمرأة والمرأة بالنسبة للرجل فى المجتمعات التقليدية تكون دائما نذير شؤم لأن الرجال وخصوصا هؤلاء الذين ينصّبون أنفسهم حراسا على الدين والتقاليد، يكونوا مهددين بفقدان مزايا أن يكونوا رجالا، أو بمعنى أدق: ذكورا فى مجتمع ذكورى. من جهة أخرى فإن غالبية نساء تلك المجتمعات عادة لا يستجبن لدعاوى النسويات الغربيات، بل إنهن يشعرن دائما بأنهن مهددات، ذلك لأن النساء ببساطة أسيرات الثقافة الذكورية نفسها التى صنعها الرجال وحبسوا النساء فى متونها وهوامشها فصارت بالتبعية حارسات عليها. بمعنى آخر فإن النساء فى تلك المجتمعات لا ينظرن إلى النسويات الغربيات ومن ثم النسويات العربيات اللاتى يرددن مقولات النسويات الغربيات باعتبارهن صاحبات دعوة عالمية للدفاع عن المرأة، ولكن تنظر إليهن باعتبارهن ممثلات للإمبريالية الغربية، وذلك لأن المجتمعات التقليدية التى خضعت للاستعمار ولم تنتقل بعد للدولة الحديثة المدنية الديمقراطية لا يسعها إلا النظر للبلدان الغربية فى ضوء المؤامرة الكونية على الهوية المحلية. وهو ما يدفع نساء تلك المجتمعات إلى رفض دعوات النسويات لشعورهن بأنهن متفوقات عليهن، ومن ثم فإن رفضهن يكون على مستوى شعورى أكثر منه على مستوى عقلانى. المفارقة أن بعض مبررات ذلك الموقف هى مبررات صحيحة تماما، أولا لأن الغرب فى دعواه العالمية يضع معايير غربية يظن أنها معايير «الإنسان العاقل»، وثانيا لأن الغربى لم يتوقف يوما عن استنزاف المجتمعات المحلية التقليدية وقواها الاجتماعية، وهو ما يعزز من موقف الأصوليين المحافظين فى صدهم للقيم الإنسانية. هناك عبارة تقول إن القمع هو افتقاد فرص الاختيار. وهو ما يعنى أن الدفاع عن حق النساء فى المساواة مع الرجل ليس معناه بحال من الأحوال دفعهن للنوم مع الغرباء أو للعيش معهم والإنجاب منهم دون زواج أو تعاطى المخدرات والعمل بالدعارة! إلخ تلك التصورات التى يروّج لها المحافظون ولكن حق النساء فى المساواة مع الرجال يعنى أن يكون للنساء الحق فى البدائل والخيارات المتاحة البديلة عن قمعهن. وهو ما يستلزم أولا الحق فى التعليم وفى المعرفة وفى ممارسة السياسة وفى العمل لأنه لا اختيار دون وعى. خلال الشهر الذى سبق موجة 30 يونيه الثورية، والشهر الذى تلاها تناثرت أفكار هنا وهناك فحواها أننا بإزاحة جماعة الإخوان نكون قد خرجنا من عصورنا المظلمة. قد يكون لهذه الأفكار بعض الوجاهة إذا ما فكرنا أنه بالفعل تم إنهاء أسطورة الإسلام السياسى، لكن هذه الأفكار تفقد وجاهتها إذا ما فكرنا فى أن إنهاء أسطورة الإسلام السياسى أمر لا علاقة له بإنهاء أساطير الإسلام السلفى. قد يكون المصرى بألف ولام التعريف قد اكتشف عدم مصداقية دعاوى أنصار المشروع الإسلامى المزعوم، ولكنه هو نفسه أى المصرى ليس مستعدا حتى الآن للتخلى عن أصولية التفكير الدينى، فهو وإن كان قد سخر من ادعاء الإخوان أن جبريل عليه السلام قد زارهم فى اعتصامهم، فإنه لم يسخر بعد من إيمانه بأن الملك سليمان كان لديه كم ألف جارية وطأهن كلهن لمجرد أن حديثا كهذا قد ورد فى كتب التراث المعتبرة لدى مشايخ السلفية الذين لم يزل يجلهم ويجل خرافاتهم باعتبارها عنوانا للحقيقة. هذا الشخص نفسه، حتى بعد مشاركته، بشكل أو بآخر، فى إسقاط الجماعة الأم للإسلام السياسى، وإسقاط أساطيرها، سوف يستمر كحجر عثرة فى طريق التوقف عن التفكير فى المرأة باعتبارها «أنثى» أى وعاء جاهزا للتخصيب، وباعتبارها «عورة» عليه، وعليها أيضا، إبعادها عن الفضاء العام. هو نفسه سوف يمكن إثارة مشاعره الدينية عند اختيار أى امرأة لتولى منصبا رفيعا، أو حتى لرئاسته فى العمل. علينا إذا، ومن الآن البدء فى العمل بجدية فى مسارات متوازية. أولا بالعمل على تفكيك الأصولية نفسها، وثانيا بفضح أصولية الأصوليين وتناقضاتها المرعبة، وثالثا بالاستمرار فى دفع الحراك السياسى الثورى. وعلينا طوال الوقت أن نكون واعين بشدة بأن هؤلاء الأصوليين سوف يخوضون معركتهم بضراوة، وسوف يظلون يحرسون الثقافة الذكورية بكل شراسة لأنها معقلهم الأخير الذى يعرفون جيدا أنهم سوف يُدفنون فى التاريخ نهائيا إن هم فقدوه. ولكن يجب أيضا أن نكون واعين أننا بحاجة لتغيير خطابنا، كى يكون مفهوما للناس الذين ندعى أننا ندافع عن حقوقهم، فما قيمة أى دفاع عن حقوق أصحابها لا يؤمنون بها؟!