في ظل الأحداث المرعبة من قتل وتهجير وتشريد بالشرق الأوسط سارعت وسائل الإعلام المحلية والإعلامية في نقل حدث مهم غطى على الأحزان والآلام، لنقل وقائع معجزة حبى بها القدر «أم الدنيا»، إذ أن اليوم الثلاثين من أغسطس يعيد لنا الذكرى العاشرة لوفاة الأديب العالمي نجيب محفوظ، وقد تعطش الأديب العالمي لرؤية المجتمع الذي سطره في رواياته ورسم شخوصه ورموزه في قصصه بعد سنين غياب منذ رحيله عن عالمنا في 2006. وتنقل «التحرير - لايف» حدثا تخيليا لفعاليات اللقاء الأول الذي يخرج خلاله محفوظ من قبره ليلتقي بمحبيه في ندوة ثقافية مستنيرة، يروى فيها محطات 94 عاما قضاها بين جنبات القاهرة وعلى ضفاف النيل الذي عشقه فلم يقدر على هجره. الانتظار السعيد في البداية يقف عدد من المثقفين والأدباء العالميين إضافة إلى الطلبة والمريدين علاوة عن المسؤولين وعامة الشعب أمام قبر الأديب العالمي في صفوف منتظمة وسط ابنتي الأديب العالمي أم كلثوم وفاطمة ينتظرون الفسحة الربانية لمحفوظ، التي يخرج فيها فترة وجيزة من قبره.. وتنتقل الكاميرات على الوجوه حتى تستقر أمام باب القبر. وما أن يخرج نجيب محفوظ في هدوء ملحوظ مبديا ابتسامته المعروفة حتى يدوي التهليل والتكبير ويعلو الصراخ والتصفيق وينفعل الشباب بالصفير، فيرحب الأديب العالمي باللحظات السعيدة ويقول: "أهلا وسهلا.. أهلا وسهلا" ثم بسرعة يلتف حوله الحراس ليستقلوا سياراتهم ومعهم محفوظ نحو قاعة المحاضرة. ويبدأ اللقاء داخل أكبر قاعة بجامعة القاهرة حيث اصطف الحضور إلى خارج حرم أعرق الجامعات المصرية ينصتون إلى همسات "العالمي"، الذي رحب مجددا بالحضور، ثم افتتح حديثه عن شوقه للمجتمع المصري الذي أحبه ولذكريات القاهرة منذ مولده في الجمالية في 11 ديسمبر 1911، وبداية كتاباته القصصية في الثلاثينيات من القرن الماضي بمجلة الرسالة، وتذكر أيضا روايته الأولى عبث الأقدار التي تقدم مفهومه عن الواقعية التاريخية، و"كفاح طيبة" و"رادوبيس" منهيا ثلاثية تاريخية في زمن الفراعنة، واتجاهه إلى الواقعية في "القاهرة الجديدة"، ثم "خان الخليلي" و"زقاق المدق"، وتناوله الواقعية النفسية في "السراب"، ثم عاد إلى الواقعية الاجتماعية مع "البداية والنهاية" و"ثلاثية القاهرة". وطلب ناقد أدبي من الروائي العالمي أن يصف له طريقة كتابته وتجميع أفكاره.. فرد عليه محفوظ بابتسامته المعهودة قائلا: "أنا ساعات كنت بقوم الساعة 2 بليل وتجيلي فكرة بس بأجلها للصبح لأني عارف إن ليها وقت محدد بكتب فيه"، موضحا: "السنة عندي تبدأ في أكتوبر وتنتهي في أبريل بعد ذلك لا أصلح في شيء، أقضي أجازتي في الإسكندرية دون كتابة حتى عودة الشتاء فأبدأ عملي بالكتابة وأتوقف في الخميس والجمعة اللذين أقضي فيهما هواياتي وزياراتي وجلسات أصدقائي". وأضاف: «أما يومي العملي فيبدأ بالاستيقاظ من الخامسة صباحا والنزول إلى الشارع في السادسة ذاهبا إلى عملي مارا بقراء الجرائد على قهوة "أيوب".. يالها من ذكريات». وأكمل محفوظ: "تنظيم الوقت أهم شيء عندي فالكتابة تتميز بالتلقائية في رسم الشخصيات أبدأ فيها وأذهب لغيرها ثم أعود إليها، لكن الوقت محدد بثلاث ساعات قبل الظهر والقراءة عندي بعدها حتى المساء وأشاهد التليفزيون في التاسعة مساء"، وتابع: "ولا تعتقد أنه ليس لي اهتمامات فأنا أحب السينما والعزف على «الأنون» والقراءة وجلسة المقهى مع الأصدقاء لكن لكل وقت حاجته". وسأله سيناريست مشهور عن كتاباته للسينما وتأليف السيناريو.. تأمل محفوظ برهة ثم حرك نظارت وابتسم قائلا: "حكايتي مع السينما في دار عرض الكلوب المصري بالجمالية وشاهدت شارلي شابلن وأفلام رعاة البقر، ودخلت في الأربعينيات العمل السينمائي مع صلاح أبو سيف في «زواج عنتر وعبلة»، وعملت السيناريوهات من بعدها لكن في الأجازة فقط". دوت همهمة غير معروفة في الآخر وانتقلت الكاميرات إليه.. وطلب محفوظ أن يمسك صاحب الصوت ب"المايك" حتى يستمع، فعرف الرجل بنفسه مفتخرا بانتمائه لشيخه ياسر برهامي معترضا على أدب الروائي العالمي والأفلام السينمائية المأخوذة عن قصصة بأنها تنشر الفجور والرذيلة وتدعو إلى الفسق. وببساطة الناضج ضحك محفوظ بأبوة عطوفة على حال الشاب المراهق، طالبا اسم قصة يذكرها لم تعجبه توقف الفتى متبللا ثم "تهتهة" في نطق "أولاد حارتنا" مبديا استياءه من تجسيد الله في شخص الجبلاوي والأنبياء في أولاده.. إلخ. امتطى التلميذ بلال فضل وأمسك الميكروفون مستأذنا من أستاذه الكبير أولا ثم أورد ردوده على الشاب المراهق. وزاد محوظ على قول بلال موضحا ما يحدث لقصصه السينمائية بقوله إن السينما تعتمد على الصورة والكتابة وأن هناك الاعتبارات التجارية والرغبات الموزعين في الخارج والداخل مما يدفع المنتجين والمؤلفين إلى تغيير في قصة حين يكونون الفيلم، مردفا: "لكن مش دائما سيئ بس بيتعمد فيه الإمتاع والإبداع من أي شيء آخر". وذكر من ذلك ضاحكا: "قصة فيلم «نور العيون» لفيفي عبده، اشترتها شركة إنتاج ورأت أن هذه الفنانة هي التي تصلح لبطولتها رغم أنها خالية من الشخصيات النسائية لكنهم قلبوها وجعلوها خالية من الرجالة"، وانفجر الجميع بالضحك ثم أوضح أنه تعهد سابقا ألا يتعرض لأي فيلم يؤخذ عن قصصه أو رواياته ويدخل في صراعات بل يلتزم بعمله الروائي حتى لا يهدر الوقت. وسأله شاب عن رأيه في "المهرجانات الشعبية".. ذكر الأديب العالمي أنه سأل عن الضوضاء التي خرجت من مركبات زادت زحمة الطريق قبل وصوله إلى القاعة، متعجبا من أشكالها وهيئة سائقيها، فأجابه محيطوه بأن ذلك لون غنائي يدعى المهرجانات ويفضله أصحاب المناطق الشعبية حاليا، وسائقو المركبات "التوك توك" الذي انتشرت مؤخرا... فضحك الجميع. وأضاف الأديب العالمي برد موضوعي: "لا أصدر حكما في قضية إلا وراء حيثيات عقلية مقنعة ولو قدرنا نفكر بعقولنا أكتر من تفكيرنا بغرائزنا هيبقى أفضل بكتير"، مشيرا إلى ولعه بالعزف على آلة «الأنون» الموسيقية، وأباطرة الفن القديم كمنيرة المهدية وصالح عبدالحي وعبدالحي حلمي، لكنه نوه عن المهرجانات بقوله: "طالما في غنى وموسيقى والناس بيحبوها يبقى ده كويس وميزعجنيش.. اللي يزعجني هو اختفاء الموسيقى والغناء، إحنا ناس لينا دنيانا وذوقنا والأجيال دي ليها ذوقها الغنائي ولا بد من احترامه"... فانتفضت القاعة تصفيقا لعقلانية الإجابة وحكمة القول. وقام من بين الحضور شاب مهندم الثياب سائلا محفوظ عن علاقاته الغرامية وأول حب وقع في شراكه.. أنزل محفوظ كف يده من على فمه لترسم شفتيه ابتسامة جميلة لكنه أخفاها بطأطأة رأسه إلى أسفل، ثم أجاب: "طبعا كان حبًا فاشلًا من الأول حيث كانت تكبرني".. فقاطعه إحدى الفتيات الجالسات أمام المنصة الرئيسية قائلة: "ودي كانت جارتك"، فقال: "مهو يعني هروح أحب من أوروبا.. مهو لازم نكون جيران"، فطفق الجميع في الضحك.. ثم عاد بحديثه إلى الفتى الحالم: "أخذت منها حب عبدالجواد في الثلاثية، لكن هذا الفشل جعل الحياة العاطفية تعيش وحولها إلى كتابة عظيمة". وأطل شاب أشعث الشعر ذو "دوجلاس صغير" وملتحف ب"الشال الفلسطيني" حول رقبته من «البلكون» أعلى القاعة مهاجما الأديب العالمي بأن العهد الناصري أرهبه فأخفى آراءه السياسية طيلة حياته... طلب محفوظ من أحد القريبين له إعادة سؤال الفتى إذ لم يسمعه جيدا، ثم قال: "أه أه.." وتبسم ثم أوضح أنه تحدث عن المجتمع وحاله وتناول شخصياته في قصصه ورواياته، وعن الحال السياسي قال إن لكل نظام حكم إيجابياته وسلبياته وعبرت عن بعض السلبيات بموقف الانتهازيين في الاتحاد الاشتراكي وبالتحديد في "ميرامار". مشهد من "ميرامار" وأضاف: "الحقيقة ليس كل نقد يعرض صاحبه للأذى حتى ولو كان مع سلطة كمثل ذلك العهد وأنا لم أكن من أعداء الثورة لكن النقد كان ذاتيا بهدف تنقية الاتحاد الاشتراكي، لكنني لم أتعرض لمبادئ الثورة الكبيرة". وصاح أحد الحضور وكان صوته أجش قائلا: لكنك تنبأت بانهيار وهزيمة مصر بذلك العهد في "ثرثرة فوق النيل".. فعلق الأديب العالمي: "بسبب فقدان الثقة وتراجع مصر وعزلة ناس كثير عن المسؤولية والاعتماد على شعار أهل الثقة والتجاهل الواضح لأهل الخبرة وكان الفساد رائحته فاحت". وطلبت فتاة من محفوظ الحديث حول أحلامه وأمنياته في صغره... فرد الأستاذ ضاحكا: "كنت أحلم أن أكون سواق تروماي في صغري ولم يحدث" موضحا: "لكل مرحلة أمنياتها يحدث بعضها ولا يتحقق البعض الآخر". وتابع أن المدينة الفاضلة التي يحلم بها هي مجتمع يقوم على قيم ثابتة أولها الحرية والعدالة الاجتماعية والقيم السامية التي أرستها جميع الأديان، مؤكدا أن أمنيته الأخيرة قبل الرحيل حسن الختام للجميع وأن تمر مصر من محنتها، وقال: "لو مصر خرجت من أزمتها واتوزنت هحس بسعادة ملهاش مثيل". ثم ودع محفوظ الحضور معانقا أحباءه الذين عرفهم وعانق ابنتيه عناقا حارا أخيرا ثم لوح للآخرين منصرفا، لكنه ترك لنا المحبة والإنسانية في نفوس الحياة التي سطرها في مؤلفاته.. "ولولا أن آفة حارتنا النسيان ما انتكس بها مثال طيب" - من رواية أولاد حارتنا.