أحد أكبر أزمات عالمنا المعاصر تتمثل في انتشار موجات العنف والإرهاب ذات الوجوه والسند الديني والطائفي، أي هذا النمط من السلوكيات العنيفة، أو الخطابات الحاملة لها، أو المحبذة أو المسوغة والمبررة للعنف سواء أكان مادياً من خلال عمليات الضرب، أو الجرح، أو القتل والاغتيال، أو التفجيرات وسواها، أو العنف اللفظي من خلال استخدام العبارات القدحية أو الحاطة بالكرامة الإنسانية، أو التي تحمل تهديداً ما أياً كان، أو تحمل مسّبات دينية تحقيرية، أو تشكك في ديانة ومذهب الآخر أياً كانت انتماءاته، يمتد هذا العنف القولي والسلوكي إلى عديد المساحات والمجالات، وبات من مألوف الحياة المعاصرة لاسيما على المجال العام الافتراضي، وخطاباته السجالية حول الدين والمذهب والجماعة الدينية، والتي تمثل أحد محركات ودوافع الانتقال من العنف الديني القولي والكتابي إلى العنف المادي سواء أكان عملاً فردياً إرهابياً، أو عمل عنيف ضمن جماعة إرهابية على نحو ما نرى في تدافعات الحياة اليومية في عالمنا، والتي لم يُعد أحد بمناجاة منها، أياً كان مكانه أو موقعه على خرائط عالمنا التي يبدو أنها بعضها دخل في مراحل التغيير كما في منطقة المشرق العربي المضطرب في سورياوالعراق. العالم دخل في مرحلة إدارة الإرهاب أو التعايش مع العنف والإرهاب كجزء من مصادر تهديد نمط حياتنا المعولم وما بعده، من ثم أصبح يشكل أحد مصادر تهديد الحياة اليومية مع مصادر أخرى على رأسها النزاعات المسلحة، وتفكيك بعض الدول وانهيار بعضها – كما في اليمن وليبيا- بكل ما تخلفه هذه الحروب الأهلية، والتداخلات الإقليمية في مساراتها وبين أطرافها، من ثم باتت تشكل خطراً على بعض النظم الديمقراطية من خلال الإرهاب الذي تمارسه بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية على نحو ما مارسته القاعدة ونظائرها وأشباهها في أمريكا، وأوروبا كما حدث في فرنساوبلجيكا، وألمانيا. وأصبحت كل الدول تحت شبح تهديد العمليات الإرهابية التي تطورت من خلال عديد الأساليب ومنها، خطف وتفجير الطائرات، والسيارات، والهجوم على مناطق الاصطياف كما حدث في نيس، أو على بعض دور الصحف كما في مجلة شارلي أبدو الفرنسية، أو المطارات كما في بلجيكاوفرنسا، أو في بعض الأسواق كما في ألمانيا. كل هذه العمليات الإرهابية الدامية والوحشية تطورت على أيدي الجماعات الإرهابية الجهادية على نحو ما فعلت داعش، من قطع للرؤوس، وحرق الأحياء، أو إلقاء بعض الأحياء من أعلى البنايات أو إجبار الفتيات والنسوة على العمل الشاق، أو حضهن على ممارسة الجنس مع مقاتلي هذه المجموعات، أو اختطاف الفتيات والقتل والتفجيرات على نحو ما قامت به منظمة بوكوحرام. الإرهاب في غالب الأمكنة والخرائط وينتقل من العمليات الجماعية المنظمة إلى المجموعات الصغيرة والذئاب المنفردة. أهداف هذا العنف الوحشي المعلن هو إشاعة أقصى درجات الخوف والرعب والترويع وسط الجمهور ليس في مناطق التفجير أو القتل غيلة فقط وأما على المستوى الكوني، من خلال خلق حالة من الردع عبر الأشكال الوحشية للارهاب، أي خلق توازن رعب نفسي مع الدول والنخب السياسية الحاكمة في الإقليم، أو الدول الديمقراطية الكبرى في أوروبا، من خلال إشاعة الترويع وتحريك الرأي العام بمختلف شرائحه ومكوناته للضغط على الحكومات. إذا بحثت وراء أهداف هذا العنف ومبرراته، سوف تجد السند والتأويل والتسويغ الديني له، والخطابات الدينية الحاملة له، والتي تجذب أعداد من الأجيال الشابة من المنطقة العربية، أو نيجيريا ومالي في أفريقيا، أو في الدول الأوروبية من الجيل الثالث من أبناء الهجرة الذين لم يندمجوا داخل هذه المجتمعات نظراً لفشل سياسات الإدماج الداخلي فيها كما في فرنسا. بعض الدوافع للانجذاب والانخراط في هذه المنظمات الإرهابية وداعش مثالاً لها، قد تكون نفسية، وبعضهم يرى فيها أحد الأشكال الراديكالية لمواجهة نمط الحياة داخل النظام الرأسمالي!. أياً كانت هذه الدوافع الشخصية أو المجتمعية ثمة دافع وهدف ديني وراء غالب هؤلاء المنخرطين في داعش والسلفيات الجهادية وهو السعي إلى بناء دولة الخلافة الإسلامية بناءًا على تفسيرات وتأويلات دينية محافظة ومتشددة، وعلى أشلاء دول عربية قائمة بالفعل على نحو أدى إلى حروب أهلية دامية. إذا نظرنا إلى أبرز انتهاكات هذا المشروع سنكتشف فوراً أنه الحق في الحياة للآخرين الذين يخالفون داعش ونظائرها وأشباهها في رؤاها الأيديولوجية التأويلية الوضعية مسألة إقامة دولة الخلافة على أنقاض الدولة الوطنية، وهؤلاء ليسوا فقط من المواطنين من ذوي الأديان الأخرى غير الإسلام، وإنما الكثرة الكاثرة هم من المسلمين، ومن ثم شكلوا الأغلبية الساحقة من ضحايا داعش والمنظمات الإسلامية السياسية الراديكالية، خذ على سبيل المثال ما قام به بعض الغلاة من المتشددين في ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين في مصر، والاعتداءات التي تمت على بعض المسلمين ووصل بعضها إلى القتل كما في حالة شاب جلس إلى جانب خطيبته على أحد الأسوار القصيرة في الطريق العام، وذلك من خلال بعض السلفيين الذين مارسوا الحسبة واعتدوا على طالب الهندسة الشاب وقتلوه! من ناحية أخرى تشكل الممارسات الإرهابية العنيفة والدامية لداعش في العراق ضد الأزيديين، من تهجير وسبي للنساء وقتل وهدم للمنازل ودور العبادة وإجبار بعضهم وبعضهن على دخول الإسلام قسراً مما يشكل اعتداءاً جسيماً على حرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وهي إحدى الحريات الأساسية التي جاء بها الدين الإسلامي العظيم، لكن تأويلات الغلاة وتفسيرات بعض رجال الدين القدامى التي يأخذ بها السلفيين أدت إلى تسويغ وتبرير وشرعنة هذا الاعتداء الجسيم على حرية الأزيديين والأيذيديات في التدين وممارسة الشعائر، وامتد الاعتداء إلى سبي النساء والاعتداء الجنسي عليهن، مما شكل مساساً بمعصومية الجسد الإنساني إزاء الانتهاك والاعتداء البدني الذي يحميه الإسلام الديانة والقيم والعقيدة. في الحالة المصرية شكل العنف ذو الوجوه الدينية والطائفية انتهاكاً لحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وذلك قبل 25 يناير 2011 وفي المراحل الانتقالية ولا يزال، حيث تم حرق وتدمير أكثر من 42 كنسية ودار عبادة، وحرق بعض المنازل وإتلاف مزروعات – اعتداء على الحق في الملكية أو الحيازة والمنقولات – واعتداءات جسدية، من ضرب وجرح، وإهانات كما في مثال الاعتداء على سيدة مسنة في قرية الكرم في محافظة المنيا وتجريدها من جلبابها أمام الجمهور للحط من كرامتها وإهانتها هي وأسرتها. ثمة أيضاً الاعتداءات المتكررة على بعض البيوت التي يصلي فيها الأخوة الأقباط لأنه لا توجد كنيسة بالقرية أو القرى المجاورة لها، وهو ما يشكل أحد أكبر الاعتداءات خلال الفترة الأخيرة، ويشكل انتهاكاً للقواعد والمبادئ الدستورية حول المساواة، وحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وهو حق لكل المصريين وفق التعريفات المعاصرة في المواثيق الدولية حول حرية التدين والاعتقاد، ومن ثم من حق أي مواطن أن يمارس شعائر ديانته وفق أصولها وطقوسها في حرية وعلانية دونما قسر أو إرغام أو انتهاك، وهو ما نصت عليه دساتير مصر الملكية والجمهورية معاً – مع اختلافات وبعض الضوابط في دساتير الجمهورية، لاسيما في ظل دستور 1971 وتعديلاته، ودساتير 2012، 2014-، ومع ذلك يبدو أن التمدد في الثقافة والتركيبة الريفية في أجهزة الدولة البيروقراطية ومعها الثقافة الدينية الإسلامية الوضعية – السلفية والإخوانية والأزهرية الجديدة المغالية- أدت إلى تعاطف بعض هذه الأجهزة مع الغلاة من السلفيين وغيرهم من بعض الأزهريين في وضع العقبات أمام المواطنين المسيحيين – بمختلف مذاهبهم الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية – في إنشاء كنائس جديدة في مناطق لا توجد بها، ويحتاج المواطنين المسيحيين فيها إلى دار للعبادة فيها، بل وصل الأمر إلى تعقيدات بيروقراطية إزاء ترميم بعض الكنائس القديمة والمرخصة فعلاً. لا شك أن الثقافة الريفية الدينية المتشددة في بعض أجهزة الدولة هي التي تشكل حاضنة يبروقراطية تدفع بعض الغلاة من رجال الدين وكبار العائلات، بل وآحاد الناس- كما في محافظة المنيا وغيرها – إلى إثارة النزاعات والهجوم على الأقباط والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم ويعتمدون على أنهم لن يخضعوا للمساءلة الجنائية ولحكم القانون، وإنما سوف يجدون حلاً للإفلات من المساءلة والعقاب على جرائمهم من خلال آلية المجالس العرفية التي تفرض قواعد القانون العرفي الذي يكرس حكم الأكثرية على الأقلية، وقصارى ما يتم من حلول هو دفع الديات والتعويضات التي يتم تحصيلها بشكل جماعي من أهالي القرية المسلمين. ومن هنا يمكن تفسير بعض غموض في ثنايا مشروع القانون المقدم من الحكومة لبناء الكنائس والذي يكشف عن استمرارية هذه الذهنية السائدة لدى بيروقراطية الدولة المصرية التي تريد إعادة إنتاج القيود القديمة والاصطلاحات غير العلمية في مفردات نصوص القانون، كالطائفة في حين أن مصر لم تعرف نظام الطوائف والملل الذي ساد أثناء الإمبراطورية العثمانية الاستعمارية في المشرق العربي، والدولة الحديثة في مصر أخذت منذ دستور 1923، 1930 ودساتير الجمهورية بمبادئ حرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية والمواطنة والمساواة بين المواطنين المصريين جميعاً. من هنا تضع البيروقراطية صياغات قانونية تعطي لها السلطة والسيطرة على إجراءات بناء الكنائس بما يؤدي إلى تغولها، ومصادرة أصل الحق في بعض الأحيان إذا رأت ذلك. من هنا يمكن تفسير "المماحكات" والمناورات حول صياغة نصوص مشروع القانون المقترح لبناء وترميم الكنائس، وهو أمر يؤدي إلى توسيع شقة الخلاف بين السلطة التنفيذية والتشريعية وبين المواطنين المصريين الأقباط، من ثم تدخل رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء لإعادة النظر في بعض نصوص القانون، ونتمنى أن يعاد صياغة مشروع القانون على نحو يؤكد على حقوق المواطنة الدستورية وعلى رأسها حرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وتأكيد مبدأ المساواة بين المواطنين جميعاً أياً كانت دياناتهم ومذاهبهم، والأهم هو التطبيق الصارم لقانون الدولة على كافة أشكال الانتهاكات لحقوق الأقباط لاسيما في الأرياف ومحافظة المنيا وقراها التي أصبحت علامة على التواطؤ بين الغلاة من السلفيين ورجال الدين وآخرين، وبين بعض البيروقراطيين، لاستبعاد قانون الدولة عن التطبيق على من ينتهكون قواعده. سيادة القانون هي الحل.