جالساً على المسرح بانتظار أن أقرأ قصيدتي، حدث ذلك سنة 2014 حين كان يجلس إإلى جانبي شاعر من البيرو بعد سنتين فقط سيرحل الشاعر بسبب السرطان . بقيت الصورة على لوحة الكمبيوتر يبدو أن إدواردوخيرينوس لم يغير مكانه
بانتظار أن يقرأ قصيدته .
.......
أمي على الهاتف هناك وأنا هنا أبعد مسافة غيمة . تسألني عن ابني وزوجتي وإن كنتُ على مايرام؟ أذكرها بالماضي والأشجار والسطوح . أريدها أن تضحك. وتضحك :
متأكداً أنها تكلمني من قلب العتمة .
.....
تركتُ كلّ دمشق أمام بيتكِ . لن يطلع القمر على السطوح، لأن أبناء الحي يفرشون العنب تحت شمس آب ثم يأخذونكِ إلى أحلامهم .
علي أن أنتظر عشرين سنة أخرى كي أعلمهم دروس الندم .
.....
وكل منا يريد أن يسرق حسرة قلبكِ . نشتهيكِ كما نشتهي رغيف الخبز المفروش أمام الدكاكين . ونلحق رائحة ثوبكِ الذي يكشف ثدييكِ أمام الأطفال فيصيرون أشجاراً وعباد شمس تخلعين أزرار الينابيع , وبالفم العطشان نهرب إليكِ كي نكتشف أصل الكتابة والقراءة، ونحاول أن ننام جنبكِ على السرير لكن حبيبكِ لا يريدنا في البيت .
.....
المكان موطن قديم يتهالك وثيابكِ على حبل الغسيل ننتظرها كي تجف . ولا تأتي ريح نتنهد فيطلع شجر السرو، مثله مثل البشر الذين يتضرعون :
فقط بالتمتمات المنقوشة على الحجر نشبّهكِ بالوحشة .
.....
الشوارع التي كنا نقطعها بين البرامكة وباب مُصلى وطريق الزاهرة القديمة، وصولاً إلى حارات التضامن في عزّ الظهيرة، وفي مثل عمري ذلك الزمان المتفحم، كنت أشير إلى منزلها من نافذة الميكرو، وكنا بشراً شبيهين بموتى المقابر البحرية محشورين داخلها كتماثيل بقمصان منزوعة الأزرار .
كان كافياً أن أجد مفتاح البيت فوق ساعة الكهرباء في الوقت الذي يعمُّ الظلام المدينة .
.....
أهم شيء منسيّ تلك الأدراج التي لم يكتشفها أحد تلك الحوليات النائمة تحت الجلد لقدرة شخصٍ واحدٍ أن يحوّل شعباً إلى جالية مرمية في صحراء .
..... - كنا نختبىء وراء الشجرة فتتدلى فجأة منها المصابيح : دموع آبائنا نراها مكشوفة .
.....
سوريا التي كانت تبعد عنا كيلو مترات قليلة صارت تبعد آلاف الكيلو مترات : الباب الموارب والزواريب وصدور العصافير تلتمع على الفحم ككوكب الزهرة .
.....
ثلاثة إخوة ينتظرون قميصاً يتجمّد على حبل الغسيل . .....
فجأة نتذكر رب المنزل وهو على عجلة من أمره ونضحك . سافر واحد من أخوتي إلى ليبيا ولم يكن يتجاوز السادسة عشرة من عمره . كان يجب أن يذهب أحدنا إلى مكان ما في العماء . كنا نغرق وعلى أحدنا أن يقفز نحو المجهول كي نبقى نحن السبعة أفرادا على قيد الحياة وبانتظاره وبانتظار حقائبه المحشوة بالهدايا والساعات والقمصان. ولم أره إلا بعد ثلاثة عشرة عاماً و لماماً، ولم أر ذلك الوجه الذي بقي في رأسي خفياً، فقط الغشاوة وبعض حمامات بيضاء وثيابنا التي كنا نتبادلها، والهواء الذي تنشقناه سوية، والخزانة التي علقنا فيها أعمارنا . بقيت الذكريات في قلبي مثل أبقار ميتة في مسلخ. .....
تمشي في شوارع كولومبيا أو جنوبفرنسا أو البرازيل ولا يعرفك هناك أحد. بشرٌ مثلنا سيفتحون لك صدر البيت ثم يلتقطون معكَ الصور التذكارية وكأنك أنهيت للتو كتابة " الإلياذة "، ثم فيما بعد ستركب الطائرة عائداً إلى وطنك الأم، فيستقبلكَ موظف المطار مستفسراً إن كنت تحمل أدواتٍ كهربائية في حقيبة الكتف.
.....
تُعلق سترتكَ وراء الباب قبل أن تغذ الخطى إلى الغرفة التي تعبق بالدخان. كان البيت لأحد أصدقائي الفلسطينيين، ويقع في شارع لوبيا بمخيم اليرموك. فتيات وشبان أتينا من القرى والجرود والمدن البعيدة كي ندخل في نقاشات تقارع الفجر، عرق وبيرة وشنكليش ورولان بارت وغرامشي وكارل ماركس والحتميَّة التاريخية والنعاس الذي سيضرب مفاصلنا أول الصباح، ونحن نخرج من ممالك بنيناها حجراً حجراً وليس في جيبنا ليرة سورية واحدة. نعود بخفيّ حُنين إلى غرف أصدقائنا الجامعية كي نأكل المرتديلا الوطنية، ثم ننام في أسرتهم ،التي يتركونها لنا حين ذهابهم إلى الجامعة. .....