يدور المحور الأساسى والبعد الزمانى والمكانى حول دائرة المعارك الإسلامية البيزنطية فى صعيد مصر كنت كثيرًا ما أتساءل عن سر خلوّ فترة الفتح الإسلامى لمصر من قصص شعبية تسجل البطولات والمعارك التى خاضها أصحاب الدعوة الجديدة، وهم يواجهون فى مصر أهم معاقل الروم ثانية القوتين العالميتين اللتين كانتا تسيطران على العالم المعروف آنذاك. لقد سجل الأدب الشعبى معارك العرب مع الفرس فى «سيرة حمزة البهلوان»، وفى «سيرة عنترة بن شداد»، كما سجل أيضًا معارك العرب مع الروم فى المشرق فى «سيرة الأميرة ذات الهمة». وسجل معارك العرب مع الأحباش فى «سيرة سيف بن ذى يزن»، كما سجل معارك المسلمين مع الصليبيين فى «سيرة الظاهر بيبرس»، ولكن هذه المعارك المسجلة فى هذه السِّيَر الشعبية ليست معارك الفتح، وإنما هى انعكاسات للمعارك المريرة الطويلة بين العرب والشعوب المجاورة لهم، ثم بين الدولة الإسلامية والدول الطامعة فيها، والمقاوِمة لتوسعاتها وفتوحاتها المستمرة، ولعل الأمر أن كُتَب السيرة النبوية وكُتَب المغازى وكُتَب التاريخ الإسلامى قد وفَّت هذه المعارك حقها، أو أن روايات الصحابة عن تجاربهم فى جهاد الفتح الإسلامى قد أغْنت الوجدان الشعبى، فتبنى هذه الروايات، واكتفى بها، ناهيك بالقداسة التى أحاطت بهذه المعارك، وبمن خاضوها من الصحابة والتى عقلت جناح الخيال الشعبى فلم يحلّق بحرية فى هذه المجالات، ناهيك بأن البطل الإسلامى الأول وهو الرسول عليه السلام قد استحوذ على كل الخيال الشعبى، فانصرف يتغنى بصفاته وأعماله فى الملاحم النبوية المتعددة التى حازت مكان القداسة عند الكثيرين من المتصوفة وعامة المسلمين كبُردة البوصيرى والمعارضات الكثيرة لها والمتنوعة. ورغم هذا ظهرت عدة أعمال شعبية حول الفتوحات الإسلامية، امتزج فيها الخيال الشعبى بالحقائق، وحارب فيها الأبطالُ العرب الكثير من الأعداء والمردة والشياطين والكائنات حبيسة الفولكلور إلى جوار حروبهم للكفار والمشركين وعبدة النجوم والأصنام والنار، أبرزها ما دار حول فتح اليمن، إذ ظهرت سيرتان منفصلتان وإن كان البطل فيهما واحدًا، والمؤلف فيهما واحدًا أيضًا. كما حظيت فتوح الشام والعراق بعمل اختلط فيه الحدث التاريخى بالخيال الشعبى وهو (فتوح الشام) للواقدى وكل هذا لا يخالف النصوص التاريخية المعروفة، وإنما يزيد عليها ويضيف، ويجرى خياله فى تعميق الأخبار تعميقًا دراميا لتتحول إلى أحداث قصصية، فيها الحوار، والانفعال، وفيها المنولوج الداخلى، وتحظى ببعض الحيلة، وببعض الحبكة والإثارة الروائية، ومن هنا خرجت من عباءة التاريخ لتدخل فى إطار الرؤية الشعبية للحدث التاريخى أو ما يمكن أن نسميه البعد الثالث للدراسات التاريخية. ويظل السؤال قائمًا عن اختفاء مثل هذا الجهد الشعبى فى تسجيل فتح العرب لمصر؟! وهو ما ستحاول السطور التالية الإجابة عنه. كنا نؤوّل الأمر بأن مصر -كما ذكرت المصادر والمراجع التاريخية- قد فتحت صلحًا، ويعدد ابن عبد الحكم فى (فتوح مصر والمغرب) وابن إسحق الأُموى فى (فتوح مصر وأعمالها) الآراء التى اختلفت حول فتح مصر، هل فُتحت صُلحًا أم فتحت عُنوة. إلا أن الثابت أن مصر فى غالبها فُتحت صُلحًا ما عدا بعض القرى مثل قرية (بلهيب)، وقرية (خيس) وقرية (بلطيس)، وكذلك فُتحت الإسكندرية فى المرة الثانية عُنوة، أما باقى مصر فقد فُتحت صُلحًا. ومن هنا فقد كان مجال المعارك الحربية أقل بكثير مما تتيحه معارك الشام والعراق. وكان هذا هو التصور الراسخ فى أذهاننا إلى أن جاء كتاب (سيرة فتوح البَهْنَسَا الغراء)؛ ليردّ على عديد من التساؤلات ويقدم نصًّا شعبيا يتناول فتح العرب لمصر تناولا يمزج بين الحقيقة والخيال، لتحرره من قيود التاريخ وصرامته وانطلاقه فى رحاب الإبداع الفولكلورى بشكل واضح وصريح، وهو على كل حال يؤكد أن فتوح مصر لم تمر على الوعى الشعبى دون استجابة يقظة وانتباه واعٍ بدور الشعب فى تسجيل بطولات هذا الحدث ويساعد فى تصور السياق العام للحدث التاريخى وتسد الفجوة الناتجة عن عجز المصادر التاريخية التقليدية عن سدها وبعث الحياة فى الهيكل العظمى للحقائق التاريخية الجافة التى تحملها المصادر عن الفتح. وهو ما سنحاول تقديمه من خلال عرض صدى الفتح العربى لمصر فى سيرة فتوح البَهْنَسَا الغراء ومدى تشبع تاريخ الفتح الإسلامى بالموروث الشعبى الذى سيظل لقرون طويلة قادمة مصدرًا خصيبًا لمن يريد فهم الشخصية القومية ومذهبها الفطرى فى التفكير وفى الحياة مما يعطى المشروعية لهذه الدراسة القائمة على أساس محاولة إخماد نيران العداوة والكراهية التى يؤججها الآن فريق من الغُلاة والمتطرفين على كلا الجانبين: المسلم والمسيحى؛ وعلى الرغم من أن التاريخ المشترك بينهما امتد منذ القرن الهجرى الأول / السابع الميلادى حتى الآن فإن أولئك المتطرفين يتجاهلون كثيرا من تفاصيل هذا التراث المشترك. سيرة فتوح البَهْنَسَا الغراء على عكس الملاحم العربية الأخرى، يدور محورها الأساسى وبعداها الزمانى والمكانى حول دائرة المعارك الإسلامية البيزنطية فى صعيد مصر، كما أنها سيرة قصصية وتاريخية تكاد تكون مجهولة عند كثير من الباحثين فى الآداب الشعبية الذين لم يلتفتوا إليها، ولم يحققوا نصوصها، أو يبحثوا موضوعها، ولتشعب وتعقد أحداث السيرة، سألتقط بعض العناصر الرئيسة للسيرة التى نُشرت محققة فى القاهرة 2012م فى طبعة، تحقيقًا علميا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الجوائز. العنوان الكامل للسيرة «قصة البَهْنَسَا هذا الْكِتَاب حكاية لغزوة من أعز الغزوات الإسلامية وَقصة فتح مبين للصحابة المحمدية عليهم رضوان الله الصمدية وَفيها نوادر غريبة وَوقائع عجيبة وَما وَقع فِى أرض البَهْنَسَا» يعد العنوان من أهم العتبات الدلالية التى توجِّه القارئ إلى استكناه مضامين النص الشعبى/ التاريخى وتفكيك شفراته واستكناه محمولاته الدلالية، بما يعطيه من انطباع أوّلى عن المحتوى. والواضح من عنوان المخطوط أن البطولة فى هذا العمل مقصودة للمكان، وهو البَهْنَسَا، فهو المعنى بهذا الكتاب وهو محوره، ومن هنا كانت محاولة السيرة تأصيل البَهْنَسَا ومنطقتها، أى العودة بها إلى عمق التاريخ، وذكْر حكاياتها عبر التاريخ وحتى مرحلة الأحداث المحورية التى تهتم بها وهى الفتح الإسلامى لها. يُنسب مخطوط «فتوح البَهْنَسَا» إلى أربعة مؤلفين يمكن وضع ثلاثة منهم فى ترتيب زمنى وهم الواقدى (130 - 207ه)، والبكرى (... - 250ه)، والمقرى (... - 758ه). هذا التطابق بين النصوص المنسوبة إلى المؤلفين الثلاثة دعا البعض إلى الاعتقاد بأن المؤلفَين المتأخرَين قد نقلا عن الواقدى ونسبا الكتاب إلى نفسيهما، وذهب البعض إلى أن الواقدى قد أبدع هذا العمل من عند نفسه وإنما كان دوره هو تسجيل القصة التى كانت تُروى عن انتصار المسلمين على الروم البيزنطيين والقبط والبجة والسودانيين الذين احتشدوا للدفاع عن البَهْنَسَا قاعدة الصعيد يومئذ. وبمناقشة الجوانب المختلفة المتعلقة بإشكالية المؤلف، ولغة السيرة ومصطلحاتها، نخلص إلى عدم نسبة سيرة البَهْنَسَا إلى أى من الثلاثة لأسباب منها أن طبعة كتاب «فتوح الشام» التى ورد بها أخبار عن البهنسا. وردت فيها أسماء لأماكن عديدة فى صعيد مصر بمسميات لم تكن قد استُحدثت زمن الواقدى (المتوفَّى 207ه / 822م) إذ نجد عند الواقدى ذكْر ل«قرية الجرنوس» فى فتوح الشام. وهذا المسمى لم يكن قد أُطلق على القرية بعد. والشواهد عديدة حول عدم نسبة السيرة إلى أى من المؤرخين السابقين وفى ظنى وتقديرى أنه مجهول؛ فالرواية نفسها تتكون من طبقات أدبية تشبه تلك الطبقات الجيولوجية بسبب أن الرواة الذين تناقلوها شفاهًا كانوا باستمرار يعدّلون ويزيدون أو يحذفون من الراوية الأصلية تلبية لحاجة جمهور المستمعين، حتى تم تسجيل الرواية فى أحد أشكالها على صفحات المخطوط الذى لم يلبث أن طُبعت منه عدة نسخ تكشف كل منها عن صحة ما ذهبنا إليه. أما عن الخلفية التاريخية للملحمة فتدور القصة بصفة أساسية حول فتح أحد أقاليم مصر الوسطى، تبلورت رؤية شعبية مصرية بما حوته من نبوءات (جاءت بأثر رجعى بعد حدوث الفتح)، وحكايات أسطورية تشرح وتفسر وتقيم جسرًا على الفجوة بين ما حدث بالفعل، وبين الروايات الجزئية للمؤرخين والوثائق (التى تشكل جزءًا من التاريخ ولكنها ليست التاريخ كله). وقد حملت هذه الرؤية أو القراءة الشعبية لأحداث الفتح الإسلامى لمصر. فالراوى يستهلّ السيرة بتقديم نفسه قائلاً: «قاَل َالشيخُ العلامةُ، وَالعمدةُ الفهامةُ (مُحَمَّدٌ بْن مُحَمَّدٌ المُعز) رحمهُ الله تَعَالَى»، ويسند روايته إلى حديث محدث مجهول بقوله: (حَدَّثنَا) أبو عَبْد الله مُحَمَّدٌ بْن مُحَمَّد المحدِّث المغربى -غفر الله له- الذى قَدِم إلى مدينة البَهْنَسَا لزيارة الجبانة، فسأله بعض الأصحاب عن سبب فتح مدينة البَهْنَسَا، فطالع التواريخ والفتوحات ثم بدأ يتحدث عن قصة فتح هذه المدينة الذى تلا فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية والبحيرة والوجه البحرى. ثم بدأ ابن المعز قصته بمدخل عن أساطير تأسيس مدينة البَهْنَسَا وبحر يوسف، فذكر من فضائل البحر اليوسفى عجائب تدخل فى باب المعجزات، وأولاها أن جبريل شقّه بخافقة من جناحه، بعد أن يئس يوسف عليه السلام من شق هذا التحويل لنهر النيل، وكان يوسف قد استخدم مئة ألف رجل للحفر فحفروا ثلاث سنوات فلما جاء النيل سد جميع ما حفروه، فبدأ الحفر مرة أخرى حتى مضت السنوات السبع المعروفة بسنوات الخصب، وآذنت سنوات الجدب بالبدء، حتى ظهر جبريل وشق البحر اليوسفى، كما ذكر له فضائل عجيبة لا أساس لها من أهمها أنه إذا انقطع عنه ماء النيل تفجرت فيه عين فيصير نهرًا جاريًا بذاته. كذلك كانت البَهْنَسَا -فى المخطوط- المكان الذى استقرت به العذراء مريم وابنها عيسى عليه السلام عند قدومهما إلى مصر فرارًا من بطش هيرود الملك ومكر اليهود، وتَرِد هذه الحكاية الشعبية فى المخطوط تحت عنوان «ذكْر نزول سيدنا عيسى ابن مريم بمدينة البَهْنَسَا وخروجه من مصر وإقامته بالبَهْنَسَا». ويبدأ الراوى الشعبى الحديث بإسناد إلهى بقوله: قال الله تَعَالَى «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَم وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ» ذكر أصحاب التواريخ وهُم: المسعودى وأبو جعفر الطبرى وَالواقدى وَابن إسحق، وَأصحاب السير وَأهل التفسير مثل سعيد بْن جبير وَسعيد بْن المسيب وَابن عباس وَعلى بْن أبى طالب وَ الثَّعْلَبِىّ وَالزمخشرى: أن المراد بالربوة -وَالله أعْلَم- مدينة البَهْنَسَا». وتتضمن السيرة فصلا عن عيسى عليه السلام؛ بعنوان «ذكر نزول سيدنا عِيسَى بْن مَرْيَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسلام بمدينة البَهْنَسَا وَخروجه مِنْ مِصْرَ وَإقامته بالبَهْنَسَا»، ويُلحظ تصحيف اسم الملك هيرودس (هيرود) إلى هيدروس، وكذلك يأتى ذكر البئر التى ارتفع له الماء إلى فمها حتى شرب. ثم يبدأ الراوى فى ذكر ملوك البَهْنَسَا القدامى وأعمالهم العجيبة الجبارة، إضافة إلى ذلك فقد كان هؤلاء الملوك فى السيرة على علم بالسحر والطلسمات التى تساعدهم على إعمار الأرض وتشييد العمائر الضخمة التى تركوها والتى استطاعوا بواسطتها إحداث ممارسات حضارية جديدة بل واستطاعوا بمساعدة علوم السحر أن يُقيموا العدل بين الناس: «حَتَّى قلّ الزنى فِى زمانه وَالفساد وَالسرقة وَعمل فِى وَقته أعمالا كثيرة وَعجائب... وَصنع أيضا قاضيا من حجر جالسا على الماء، فإن تحاكم إِلَيْهِ الخصمان فالذى معه الحق يمشى على الماء، وَالذى معه الباطل يغرق فِى الماء. وَصنع أيضا عجائب كثيرة».