يُحكى أن سيدة مصرية أنيقة، كانت دائمًا ترتدي في بيتها ملابس (مبهدلة)، فاشترى لها زوجها مجموعة كبيرة من الملابس الجديدة، وطلب منها أن تتزين بها داخل المنزل.. ثم فوجئ بها في اليوم الثاني ترتدي جلابية قديمة مهلهلة، ولما سألها عن الملابس الجديدة، أجابته متعجبة: يوه؟!.. هو انت غريب؟ هذه النكتة تتجلى فيها فلسفة الأسرة المصرية في تفضيل (الغريب) على نفسها! مثلاً.. يُفضل العروسان الشقة التي تتميز بقاعة استقبال كبيرة، لا تشوب رحابتها أعمدة، فكلما كبُر (الرسبشن) استطاعا أن يدفسا فيه أكبر عدد ممكن من الصالونات المذهبة، مع تثبيت نجفة كريستال في وسط السقف، تشبه في ضخامتها تلك التي تزين مقام سيدنا الحسين، بحيث يبدو الصالون في النهاية كقاعة مناسبات كبرى، (قال يعني حفلات الكوكتيل هاتفرتك بعضها)! مع التأكيد على إن قليلين هم الذين يهتمون بتزيين منازلهم بأعمال فنية، باستثناء لوحة (المعوذتين) المعلقة في صالون كل بيت مصري، ليس إعجابًا من أهله بفنون الخط العربي، وإنما درءًا لشرور الزائرين الحاسدين. ويُستثنى من ذلك بيوت الأقباط، لأن أغلب الفنانين العِظام وجدوا فى شخص نبيهم عيسى وفى موضوعات الإنجيل، ما استوحوا منه أشهر لوحاتهم، فلا يخلو بيت قبطي من لوحة لمايكل أنجلو مثلاً، بيد أن هذه اللوحات لم يُعلق معظمها تقديرًا لدور الفن وإنما تخليد للمعجزة المصورة باللوحة. وقد وصف الرحالة الإنجليزي س.ه. ليدر بيوت المصريين، في كتابه الممتع (أبناء الفراعنة المحدثون) قائلاً، إن المجهود المبذول على زخرفة الجدران والأثاث كبير، ولكنها تفتقد إلى التناسق وذوقها بشع! وأتفق تمامًا مع ليدر في موضوع عدم التناسق، خاصة بعد تطور مواد وتقنيات الدهانات، لدرجة سمحت للقادرين ماديًّا بتحويل جدران منازلهم إلى فاتورة ألوان سايبس كاملة.. ناهيك بالمقلم والمضلع والمزركش والمُذهب الذي يلطخون به جدران الرسبشن، إمعانًا في استعراض مهارات عامل النقاشة، وثراء العريس. المهم .. بعد انتهاء زيارات قوافل المباركين، تُغلَق قاعة المناسبات الرحيبة هذه، ويتوقف نشاطها لردح من الزمان، وينتقل العروسان إلى الإقامة الجبرية في إحدى حجرات المنزل المسماة (ليفينج روم)، حيث يُسمح باصطحاب المشروبات والمأكولات، كما يُسمح أيضا بالتمدد على الكنبة، وبعد فترة ينضم إلى الحجرة ذاتها أعضاء الأسرة الجدد، كالأبناء والمربية والأصدقاء المقربين. كل هؤلاء يجتمعون لمتابعة البرامج والمسلسلات والأكل والشرب، في غرفة لا تتخطى مساحتها عشرة أمتار، ويهجرون باختيارهم الصالون الرحيب! هذا المشهد العجيب يذكرني بقول عادل إمام لحاجب المحكمة في مسرحية شاهد ماشفش حاجة : "انت شقتك أوضة!". وهناك واد آخر مقدس داخل البيت المصري، هو حجرة السفرة، التي مهما صغُرت لا بد أن تستوعب مائدة طعام كبيرة بعدد 8 كراسي، فإذا نقص العدد عن 8، تصبح العروسة وأهلها عرضة لأكل وشهم من خالات العريس! وأهمية هذه الحجرة لا تعود إلى حجم المائدة وكراسيها، ولكنها تعود في المقام الأول لاحتوائها على قدس الأقداس، الذي يكمن بداخله الكنز المكنون والسر المدفون.. إنه النيش يا سادة، الذي يحتوي على ثلث ما ادخره أبو العروس وأمها لأعوام طويلة، بعدما تحول إلى أطقم صيني، وكاسات، وملاعق ذهبية. وتعتقد الأسرة المصرية أن محتويات النيش، لا تقل أهمية عن المقتنيات الملكية لتوت عنخ آمون، لذلك فهي لا تخرج من مستقرها إلا في مناسبات خاصة، ولا أقصد بذلك المناسبات العزيزة على القلب، كأعياد الزواج أو أعياد الميلاد، وإنما أقصد العزومات الهامة التي تقام للأغراب أو المتربصين من الأقارب أو الأصدقاء الجدد.. فإذا أصبحوا من أفراد العائلة أو الأصدقاء المُقربين أو الأحبة، انتقلوا أتوماتيكيًّا من مرحلة الصيني إلى مرحلة الميلامين، لإنهم خلاص مابقوش غُرب! وبذلك يُصبح المكان الرسمي لتناول الطعام، هو المطبخ أو الليفنج روم، صونًا لقماش كراسي السفرة من بُقع الصلصة، ولا تجتمع الأسرة المصرية على مائدة السفرة لتناول الطعام دون ضيوف، إلا في مشاهد السينما، حيث تمتلئ المائدة بشتى صنوف الطعام وتجلس الأم مبتسمة بكامل مكياجها، دون أن تشتكي من ركبها اللي هلكت من الوقفة في المطبخ! (مابيحصلش الكلام ده). ولا أعرف من أين جاء المصريون بهذه العادات العجيبة، التي يحرمون بها على أنفسهم الاستمتاع بما آتاهم الله من فضله، ويحللونه للغريب! وهي عادات مختلفة تمامًا وكليًّا عن عادات أجدادنا الفراعنة، الذين أولوا اهتمامًا خاصًّا لأجنحة المنزل الداخلية، حيث حجرات النوم، والموسيقى، و الزينة، والتطهر، بينما زُينت مداخل المنازل والشرفات بالنباتات، وخاصة زهور اللوتس، في حين يستخدم المصريون اليوم (البلكونة) لتخزين أدوات التنظيف، وتعليق الثوم! الأمر ليس مرتبطًا بالمستوى الاقتصادي أو الاجتماعي للأفراد، ولكن ارتباطه وثيق بشعورنا بالجمال، ورغبتنا في الاستمتاع بالحياة.. مثلاً .. أشاهد في شوارع القاهرة الجديدة قصورًا ضخمة جدًّا ذوقها شديد البشاعة، وأحيانًا أشاهد في مساكن الزلزال بعشوائيات حي المقطم، بلكونة صغيرة جدًّا، دُهنت بلون أزرق مُبهج، بها كرسيان وحوض ياسمين، وعلى أحبال الغسيل رُصت بعناية جلاليب بيضاء، وفستان ملون وملابس طفل رضيع . أتخيل الزوجان اللذان يعيشان في هذا المنزل الصغير، وهما يشربان الشاي بالنعناع وقت الغروب، فتنتاب روحي نشوة، تؤكد لي أنهما أكثر سعادة ورضا من أولئك الذين يعيشون في أوضة، تاركين بيوتهم بصالوناتها وسفراتها وأفخم أدواتها.. للضيوف! استمتعوا بكل شيء وكل شبر وكل لحظة في حياتكم.. فأنتم أولى من الضيوف.