قررت منذ ولادة ابنة أختي "رقية" (أو كوكا) أن أتعامل معها على نهج ما لقيته من تربية ومعاملة من أهلي. فى البداية، كنت لا أزيد على كوني شخصًا تلجأ إليه كوكا للعب عندما لا تجد أحدًا حولها، وكان هذا طبيعيًّا ومنطقيًّا بما أنها لا تزيد على السنوات الأربع. ولكني حاولت أن أزرع بعض الخصوصية أو العادات والتقاليد بيننا حتى أمهد لعلاقتي معها! يعني كنت قبل خروجي من المنزل، أذهب إليها لطلب الإذن وسؤالها إن كانت تريد شيئًا. وبالفعل، بعد بضع مرات، بدأت تسألني من تلقاء نفسها عن سبب خروجي وعن الجهة التي سأذهب إليها وإن كنت سأتأخر أم لا. أستطيع من الآن أن أؤكد أنها سوف تصبح زوجة مصرية صميمة وأتمنى أن يسامحني زوجها بما فعلته عن دون قصد. الجميل أنها كانت كثيرًا ما ترفض خروجي سواء كان بسبب خروجي فى وقت متأخر أو بسبب أننى خرجت في الليلة الماضية ولم ألعب معها، أو بسبب أني أرجع فى وقت متأخر بعد أن تنام. وكنت في هذه الحالة ألجأ إلى أمي حتى تقنعها بأنني لن أتأخر (فعلاً الديمقراطية لها أنياب)! وهذا شعور مبهج إلى أقصى حد، لأنني بدأت أن أشاهد ملامح العلاقة التي أتمناها. علاقة ندية وصداقة وليست علاقة خال بابنة أخته، معتمدة على مبادئ سلطوية أنانية شرقية متخلفة. نحن لا نريد فتاة للتحكم فيها باسم الحب أو الخوف أو القلق، ولكننا نريد فتاة قوية الشخصية قادرة على مساءلتي ومحاكمتي ومواجهتي بأخطائي إن لزم الأمر! فنحن لا نطمع في أكثر من دور الصديق أو المستشار في حياتها. وكثيرًا ما تم توبيخي من أمي وخالي عند سماعهم أنهم ليس أكثر من مجرد مستشارين في حياتي وأنني سأفعل ما يحلو لي فى النهاية. بعد بلوغها سن السادسة، بدأت كوكا تلجأ إليَّ عند حدوث خلافات بينها وبين أمي أو أختي، مثل الخلافات الأزلية والمتوارثة على الطعام أو الملبس مثل كل الأطفال المصريين "المعذبين". فتحت باب غرفتي ووجدتها تجري إليَّ باكية. فسألتها: في إيه يا كوكا؟ هي: مامي وموني (أمي) مش عايزني ألبس الهدوم اللي أنا اخترتها. أنا: طيب ممكن بلاش عياط علشان نعرف نتكلم، مش إنت عارفى إني حاعملك اللي إنت عايزاه، فأشارت إليَّ برأسها لتؤكد صحت ما قلت، فسألتها، هما مش عايزينك تلبسي اللي إنت اخترتيه ليه؟ هي: مش عارفة. أنا: طيب ممكن تروحي تجبيلي اللي إنت عايزه تلبسيه. فذهبت وجاءت إليَّ بفستان أقرب إلى فساتين الأفراح ولا يليق بدعوة للإفطار في رمضان، وبالفعل لقد كانت أمي وأختي على حق. لا تتعجب أرجوك، نعم، كنت بالفعل أحكم بين كوكا وبين أمي وأختي، فليس بالضرورى أن يكونوا على حق ولإيمانى الكامل بشخصية كوكا وحقها في اختيار ما تريده. ماذا أفعل في هذا الاختبار؟ هل أعارضها وأقف ضد رغبتها أم أحاول أن أتحاور معها أم أصمت ولا أتدخل حتى يتم إجبارها في النهاية لتلبس ضد رغبتها، أم أقول لها اخرسي وإنني لم أعط لها الإذن بالكلام وأحبسها في غرفتها وأحرمها من الخروج؟! هذا الموقف ليس بالبسيط كما يعتقد البعض، لأن موقفي سيترتب عليه سياسات كثيرة فى المستقبل خاصة بعلاقتي بكوكا وبعلاقتها مع أمي وأختي! يعني، هذا موقف تاريخي وسيتحدد عليه شكل المستقبل! قررت مناقشتها محاولاً إقناعها بأن الفستان لا يليق وإثناءها عن قرارها. أنا: بس الفستان وحش فعلاً يا كوكا وماينفعش نخرج بيه. كوكا: لا الفستان حلو وأنا باحبه ومالبستوش قبل كده خالص. وهذا ما أردت أن أسمعه منها تمامًا، أردت أن أسمع حججها وأن أرى إصرارها على قرارها. أنا: خلاص يا كوكا روحي إلبسيه! فرجعت إليَّ مسرعة بعد أن ارتدته ولكنها باكية مجددًا وشاكية مرةً أخرى. كوكا: بس مامي وموني لو قالولي وحش أنا حعيط تاني. أنا: لا يا كوكا، غنت حتلبسي اللي إنت عايزاه وسيبيهم يقولوا اللي هما عايزينو، ماينفعش نخلي الناس تقول اللي إحنا عايزينه، كل واحد يقول اللي هو عايزه، ماشي؟! كوكا: أوكيه، وذهبت مسرعة وهادئة بعد أن توقفت عن البكاء! قد تستعجبون من أن هذا هو الحوار الذي دار بيني وبين طفلة لم تتعد السنوات الست، ولكن هذا ما حدث تمامًا. هذه المقالة ليس الغرض منها أن أحكي عن قصة شخصية أو أن أحاول أن أحمل حديثًا أو موقفًا بيني وبين طفلة أكثر من اللازم، ولكن ما نفعله الآن هو ما يشكل المستقبل إلى حد كبير. بعد أن رضخت لقرارها وانتصرت لها على أمي وأختي، وجدتني فخورًا بنفسي فعلاً لأنني أعطيت كوكا حقها فى الاختيار ومن ثم حقها في الحياة! أصل الحياة وفلسفة الخلق في الحرية والاختيار!