يقول الموروث الشعبى إن سليمان سخر الكثير من الجان كعقاب لهم لخدمة بعض الأدوات كعبيد أو خدام يلبون رغبات من يملك هذه الأداة، من ذلك اللوح الذى يتحكم فى الجنى (عيروض) الذى يخدم سيف بن ذى يزن فى سيرة سيف، وكذلك الخادم الموكل بالسوط المطلسم، والطاقية المخفية، والجراب الذى لا نفذ ما فيه، وكثيرا ما يتردد فى ألف ليلة وليلة تلك الأقسام التى وضعها سيدنا سليمان الحكيم لقهر الجنى كما يقول الموروث الشعبى يردد هذه الأقسام الكاهن أو الساحر لإرغام الجنى على الطاعة وتنفيذ الأوامر. فذلك كله حلم ومنى ليس لهما من الواقع أصل. فكل مجهول لدى العامة من الناس، وكل عقبة كئود، فى بطن الأرض أو خرابها أو موحشها، وفى تلك الأوضاع الاجتماعية شديدة الوطأة، يتولد الوهم وتنسج الأسطورة وتغذيها وتقوم الأوضاع الاجتماعية الضاغطة بحماية هذا المعتقد وتعضد فكرة التعلق بأهداب الجان والعفاريت التى تمتلك القدرة على فتح الكنوز لما يتمتع به الجن من قوة خفية تفوق قوة الإنسان مرات ومرات، مما جعل الإنسان يفكر فى كنه هذا الوجود، وحقيقته وأشكاله، وتأثيره، الأمر الذى أثرى فولكلور الشعوب بحكايات الجان، التى يفسرها البعض أن شيوع مثل هذه المعتقدات تمثل شكلًا من أشكال (الاختراق) الذى يستهدف التأثير على المجتمع، وتدلنا قراءة التاريخ فضلًا عن دواعى المنطق أن حالات الهروب من الواقع وثيقة الصلة بوطأة أو قسوة الظروف المعيشية، فحين تتزايد الضغوط على الناس، تتجه فئات منهم إلى الانسحاب والفكاك إلى عوالم أخرى. هذا الهرب نجده سائدًا فى القصص الشعبية، حيث يرسم القاص البطل وقد حصل على المال بغير جهد فهو يلقاه كل صباح «تحت سجادة الصلاة» أو الوسادة، شأنه شأن البطل الذى يقطع الآماد على بساط سحرى حين كان الانتقال من بلد إلى آخر مشقة عظيمة. أو أن يحقق الإنسان كل ما يتمنى بحصوله على خاتم سليمان، وهو الخاتم الذى استطاع سليمان به أن يستخدم الجن ويسخره، فحملت له البساط، وقطعت له الأحجار، وبنت له القصور، وفجرت له الأنهار والآبار وصورت له التماثيل من خشب ونحاس ومعادن أخرى كأنها الحياض التى تروى الأرض لطولها وعرضها وبواسطة هذا الخاتم كما يقول الموروث الشعبى ملك سليمان البلاد. من هنا يستطيع قارئ كتاب (حكايات الجان) للباحث المصرى إبراهيم سلامة، والصادر منذ أيام عن سلسلة الدراسات الشعبية، التى أسسها الحكاء خيرى شلبى أن يقوم برحلة شديدة الحيوية والاستنارة يلم فيها بهذه الأفكار والحكايات وما دار حولها من نظريات عديدة، وأن يجمع محصولًا وفيرًا -هو أحوج ما يكون إليه- عن حكايات الجان التى تدور أحداثها دائمًا فى بلاد بعيدة بعيدة جدا، يخرجها هذا البعد السحيق فى تصور الناس عن عالم الواقع لتدلنا فى المحصلة النهائية عن نص دال على فكر جماعى يتحرك عبر الزمان يؤثر فى بقاء ما يمكن أن يبقى واختفاء ما يمكن أن يختفى منذ شغل الإنسان بالعالم الغيبى بكل ما فيه من جان وعفاريت وكائنات خارقة حبيسة الفولكلور دون خلفية علمية، فاستيقظ فيه النبل الإنسانى الباعث على الرغبة فى التواصل مع هذا العالم المجهول واستكشاف مجاهله والوقوف على أسراره وخوافيه، ورغم أننا أصبحنا اليوم فى زمن المادة والتقدم التكنولوجى فإن سحر هذا العالم الخفى والغامض لم ولن يفقد بريقه وحميميته وإثارته. ومما يعطى لهذه الدراسة أهمية إضافية أنها حرصت على الكشف عن المؤثرات الاجتماعية والثقافية التى تؤثر فى صياغة تلك الحكايات وتتعرض لموضوع حكايات المعتقد هذه الحكايات التى ترسخ لوجود الكائنات الغيبية -شخوص الجان- وتفصح عن أشكالها والأدوار التى تؤديها فى حياة الناس، ومدى النفع والضرر الذى يترتب على وجودها بينهم، والتى لم يتم التعرض لها من قبل ولم تتم دراستها كبنية مختلفة عن الحكايات الأخرى. كما نجحت الدراسة فى عرض البنية الأساسية المكونة لهذه الحكايات، التى تميزها عن الأنواع الأخرى من الحكايات الشعبية وطرق السرد المرتبطة بهذا النوع من الحكايات وتأثيرها على المتلقى، وأفصحت الدراسة عن فضاءات الجن والعفاريت وما لها من صفات ووظائف مغايرة تمامًا للفضاءات الجغرافية / الطبيعية ذات الطبيعة المرجعية، وعلى الرغم من أن هذه الفضاءات تمتاح الكثير من الصفات والخصائص المميزة للفضاءات المرجعية فى التشكيل والبناء، إلا أن لها خصائص تجعلها عجيبة، بحيث تبدو وكأنها أو هى بالفعل فوق طبيعية، ولا ترجع عجائبية هذه الفضاءات لوجودها المكانى فقط، بل وأيضا لأن من يسكنها ويعمرها كائنات ذات قوة خارقة وفوق طبيعية. حكايات الدراسة عن الجان والعفاريت لم تكن نابعة من فراغ، وحتى إذا كانت محض خرافة، فإن التمعن فيها بهدوء وروية تكشف لنا عن جوانب متعددة فى البناء التاريخى للشخصية المصرية، وفى بنائها الوجدانى، خصوصًا أن هذه الحكايات ما زالت تؤدى وظيفة وتعمل السيدات العجائز على ترسيخ تلك المفاهيم من خلال وظيفة كامنة فى الحكايات بغرض تحذير وابتعاد الأطفال عن أماكن خطرة غير أن استقبالهم لم يعد بنفس الدرجة من القبول، حيث إنه قد تغيرت مفاهيم الناس فى مجتمعات الدراسة الميدانية، وذلك من خلال ما تبثه وسائل الإعلام المختلفة من معلومات، وما قام به التعليم من تغيير لبعض المفاهيم لديهم، الأمر الذى لم يعد يؤدى بهم إلى القبول التام لتلك الحكايات، إلا أن هذه الدراسة المتميزة بتميز صاحبها قد رصدت بقاء واستمرار القبول لمثل هذه الروايات والحكايات عند بعض الأطفال، حيث إن المخيلة لديهم أكثر قبولًا وأنشط استقبالًا للحكايات المرتبطة بالكائنات الغيبية. دراسة تضمن للقارئ التجوال فى عالم شديد الثراء قوى غنى بالإيحاء. اسم الكتاب: حكايات الجان اسم المؤلف: إبراهيم سلامة دار النشر: هيئة قصور الثقافة