حينما تفيض القلوب دفقات تستعصى على التأطير، وتمارس المشاعر جنونًا يتمرد على الوصف، يمكن للشاعر أن يمارس هو الآخر نزقه الثائر، فتتحول الأشياء فى محيطه إلى كائنات أكثر عشقا، وتتحول كل أحاديث القلوب إلى رغوات فائضة لا تقبل الحدود، تستلهم إحداها الشاعرة ميسون صقر فى مختاراتها الشعرية «رغوة القلب الفائضة» الصادرة عن سلسلة آفاق عربية، بالهيئة العامة لقصور الثقافة، تم اختيارها من بين ستة دواوين: «البيت»، «جريان فى مادة الجسد»، «تشكيل الأذى»، «رجل مجنون لا يحبنى»، «أرملة قاطع طريق»، «جمالى فى الصور»، وبينما كانت الدواوين بمنزلة الكؤوس المملوءة بفوران أصيل، كان الأمر يتطلب أن تقوم الشاعرة بانتشال تلك الرغوات الفائضة عن الحد، فتضع كل هذه الرغوات الفائضة من دواوينها الستة، فى كأس عظيمة تلك المرة، كأس قادرة تماما على استيعاب كل ما هو ثائر ماجن، وربما كل ما هو متألق للغاية، وربما تكون تلك المختارات الشعرية «رغوة القلب الفائضة» محاولة أكيدة للحصول على تلك الانتشاءات القصوى، أو محاولة أخرى لانتشال الرغوات من سقوط لن يخلف سوى الخسارة. ستة أقسام تحويها المختارات الشعرية، تنطلق بقسم قرر أن يحتمى بتفاصيل «البيت» ربما بمنزلة التمهيد الرائع، والمدخل الشائق لاستلام تلك الرغوات الماجنة، تبدأ به الصفحات المئة أول أقسامها، بنفس عنوان المختارات، كل ما تم اختياره من قصائد «البيت» كان بمنزلة الحافز الأصيل لتكوين رغوة عظيمة الثورة، «شقوق الجدار»، «بلاط السلم الحجرى»، «تلك البوابة»، «تلك الثياب النائمة»، «لأنها تطير من النافذة»، كل التفاصيل التى احتواها البيت تضمنت مغامرات أكثر إثارة، تروح وتجىء مع أرجوحة الحب والوحدة، فتلحظ مثلا أن شقوق الجدار «تزحزح الضيق / تتسرب منها الغرف والأجساد والأحلام / هذه الفضاءات ثقوب فى الأوهام / أو ربما خدش فى قميصى الليلى الذى / أخبئ فيه حبيبى / وأنام». ومن «البيت» بتفاصيله المربكة، إلى هذا الجسد الذى يمتلئ بالجريان المحموم، ديوان «جريان فى مادة الجسد» يظهر فى قسم ثان، تبدو «اليد» و«الفم» و«الأصابع»، وأجزاء أخرى، متحركة فى دلالات شعرية مغايرة، وتراكيب مجازية رائعة، تتحرك الأعضاء فى مشاهد أكثر غرابة لتؤكد المعانى العميقة فى حركة بسيطة، فتنتج عنوانا مثل «صيغة مخالفة»، أو «ضمائر الأحلام»، تظل الصورة هى البطل فى هذا القسم، الذى يحتوى أيضا على قصيدة «رغوة القلب الفائضة»، لينتقل إلى قسم ثالث يتضمن مختارات من ديوان «تشكيل الأذى»، قصائد تنطوى على جنون آخر لا يمكن فهمه، يتحول هذا الجسد الفائت إلى جسد آخر «يتكور / مكونا قبضة ستلتهمنى / وينفجر لحظة القبض على تفاصيله»، قصائد أكثر حدة وضراوة، ومعارك خفية بين السطور، ونداءات من أطراف تستحق الإنصات، لتنتج فى بعض الأحيان «بعض المراهنات الخاسرة»، و«ليس حبيبى معى»، «كأننى خسارة»، تبدو مرادفات الخداع والخسارة مسيطرة إلى حد ما، مقدمات حقيقية لهزيمة ربما لم تتم على وجه الدقة، صور موسومة تفاصيلها بقلة الحيلة والاستكانة، حتى مع وجود مزيد من تداعيات الرقص والموسيقى «لكن الأطفال المقتولين / ينتظمون فى مسيرة العرض». تبدو قصائد «رجل مجنون لا يحبنى» فى الجزء الرابع، كهدنة لالتقاط الأنفاس، استراحة قصيرة يقضيها القارئ بين قصائد ثلاث للذكرى، كأنها الحكاية التى يتم استرجاع مشاهدها بانفعال واثق، تلك الصورة الملونة، والصورة بالأبيض والأسود، وتلك الجارية الصغيرة التى «اشترت بيتًا كبيرًا / بأثاث فخم / لكنها تنام كل ليلة عند بابه / على الأرض كما تعودت». حظيت «أرملة قاطع طريق» بتعاطف كامل عندما حكت حكايتها فى قسم قبل أخير من المختارات، تتحول التساؤلات هنا فى بداية القصائد عادة إلى قرارات فى نهايتها، ويتحول التعجب فى البداية لاعتياد ومرور آمن، تقرر الذات الشاعرة فيها تحولها لشخوص أكيدة لا رجوع عنها، تتعلم فيها الشر جيدا أحيانا، وتتعلم أيضا أن تكون أرملة قاطع طريق، ويمكنها أيضا أن تكون «البنت التى كنتها / وأيقنت أنها حبيبتك / أنا التى رميتها فى حضن الحقل / ورشفت شفتيها ثم وزعت لماها / على الذرة حولنا / أنا هى». لا ضير إذن فى أن تختتم المختارات رحلتها القلقة إلى نتائج لا توحى باليقين، هى فقط نتيجة متعلقة بذلك «الجمال»، الذى يكمن فى الصور، «جمالى فى الصور» هو ديوان ميسون صقر الأخير، والصادر عن دار العين للنشر، قسم أخير بالمختارات تختلط فيه الأصوات، بين الحزن والتألق مسافات قصيرة، وبين الموت والحب لا يمكنك أن تلحظ الفواصل، تسلمنا «ميسون صقر» للحظات مختلفة من الأنين المشوب بالأمل، حتى لو كان هناك فى النهاية «ألم صغير».