إذن أتى حسن روحانى متصدرا الانتخابات الرئاسية الإيرانية بأصوات مؤيدى هاشمى رفسنجانى ومير حسين موسوى ومحمد خاتمى. هذه رسالة قاسية لا لبس فيها للمرشد الأعلى لإيران آية الله على خامنئى والحرس الثورى والمحافظين. ف4 سنوات من الملاحقة والسجن والإقامة الجبرية لم تقتل الحركة الخضراء أو الدعوات إلى الإصلاح. بل رد الإيرانيون بالتصويت بكثافة تجاوزت ال70% ليختاروا مرشحا لا يريده المحافظون المتشددون أو العسكر، بل تريده رموز المعارضة التى تم تشويه سمعتها والتنكيل بها على مدار أربعة أعوام. لا يمكن التقليل من آثار فوز روحانى فى الجولة الأولى وبهذا الفارق الشاسع. فهو حصل على نحو 51% من الأصوات، مقابل 16% لعمدة طهران محمد باقر قليباف، بينما حصل محسن رضائى وعلى أكبر ولايتى وسعيد جليلى ومحمد غرضى على باقى الأصوات. إنها ثورة عبر صناديق الاقتراع وانتصار متأخر 4 سنوات للحركة الخضراء. إنه شعور «حلو مر» كما عبر مئات الآلاف من الشباب الإيرانيين الذين حولوا صفحاتهم على «فيسبوك» إلى اللون الأخضر مكتوب عليها «راى مى داهم» (أنا أصوت). من الصعب تخيل كيف يشعر المرشد الأعلى الآن. فهو وإن كان مرتاحا لأنه جنب إيران أزمة كبيرة لو تم التلاعب فى النتيجة «وكان يمكن التلاعب فى النتيجة على الأقل لتقليل الفارق الكبير بين روحانى والآخرين، الذى هو حقيقة ضربة قوية للحرس الثورى والمحافظين المتشددين»، إلا أنه لا بد أن يكون المرشد مصدوما من حجم رفض الإيرانيين للمرشحين المحافظين المحسوبين على خطه ونهجه مثل قليباف وجليلى. فروحانى لم يكن مرشحه، روحانى مرشح رفسنجانى وخاتمى وموسوى. الثلاثة الذين يحاربهم المرشد بضراوة منذ التسعينيات. إنه يوم رائع للإيرانيين، ويوم كئيب للمرشد. وحتى قبل إعلان النتيجة الرسمية، ارتفعت البورصة الإيرانية 6% وصعد سعر الريال الإيرانى أمام الدولار لأول مرة منذ فترة طويلة، وسادت أجواء ارتياح فى طهران، فالكل يريد محو ذكريات 2009. وتقول سارة داودى، ناشطة حقوقية إيرانية: «هذا يوم جيد لإيران. أولا الانتخابات كانت هادئة ولم تسجل تجاوزات كبيرة. كل من أعرفهم صوتوا، والغالبية منهم صوتوا لروحانى. منذ الليل ونحن نسمع أنه متقدم فى أصفهان وطهران ومشهد. فى الصباح وضح أنه متقدم بفارق كبير. الأجواء رائعة الآن. هناك شباب باللون الأرجوانى من أنصاره فى الشوارع. الناس سعيدة لأول مرة منذ 4 سنوات. ومع ذلك أنا أحاول أن أمنع نفسى من الاحتفال لأن النتيجة النهائية لم تعلن بعد. لكنه سيفوز. كل المؤشرات تدل على هذا، حتى وكالة (فارس)، التى تتبع الحرس الثورى، تقول إنه فى طريقه إلى الفوز من الجولة الأولى. هذا مذهل لأن قليباف، وهو له شعبية فى طهران وأعد لحملة رئاسته منذ عامين، خسر بفارق كبير من الأصوات عن روحانى الذى دخل السباق منذ أشهر قليلة فقط». هذه إذن نتيجة غير متوقعة حتى بالنسبة للإصلاحيين، فقبل أسبوع واحد كان يبدو روحانى «مرشح الظل» و«مرشح الضرورة» كى لا يقول العالم إن المرشحين كلهم من التيار المحافظ ورجال الحرس الثورى، حتى ترشيحه أثار امتعاض المحافظين وتيارات متشددة سعت لشطبه فى اللحظة الأخيرة. مدير حملته الانتخابية اشتكى من أن جهات ما أغلقت صفحة حملته الانتخابية على الإنترنت. مساعدوه اعتقلوا، أحد مكاتبه هوجم. قبل الانتخابات بيومين، كانت الأجواء فى الشارع الإيرانى باردة وتوقع كثيرون انتخابات باهتة تسفر عن فوز أحد المحافظين. وحتى يوم الانتخابات وضع على قوائم التصويت اسم محمد رضا عارف المرشح الإصلاحى الذى انسحب من السباق، واشتكت حملة روحانى من محاولات خبيثة لتشتيت الأصوات. وعندما دعا خاتمى ورفسنجانى إلى التصويت لروحانى، على أمل دفع الشباب والإصلاحيين إلى التصويت لم يعتقد أحد أن روحانى بإمكانه فعلا اكتساح الانتخابات بهذه الطريقة. إذا كان يمكن تلخيص النتيجة والمشهد بعبارة واحدة فهى الشعب الإيرانى أقوى من خامنئى والحرس والمحافظين، وأن رفسنجانى وخاتمى وموسوى أكثر شعبية من خامنئى والحرس والمحافظين. وإذا كان يمكن استخلاص درس للربيع العربى من انتخابات إيران، فهو أن كل حركة إصلاحية مدنية ديمقراطية تحتاج إلى وجه. تحتاج إلى قيادة، هذا ما وفره رفسنجانى وموسوى وكروبى وخاتمى. فهم فى النهاية لم يخترعوا الحركة الخضراء، إنها حركة إصلاح سياسى، واجتماعى، واقتصادى، وثقافى خرجت من قلب الشارع. أما المحافظون والحرس الثورى، فإن رسالة الإيرانيين لهم واضحة: إذا أردتم الفوز فى أى انتخابات من الآن فصاعدا عليكم بتزوير الانتخابات. وإذا زورتم الانتخابات عليكم بتحمل النتائج. حتى الآن لم يصدر أى رد فعل من الحرس الثورى، وغالبا لن يصدر، لكن هناك مؤشرات ودلالات لا تخطئها العين. فوكالة «فارس» الإيرانية للأنباء المقربة من الحرس الثورى سحبت خبرا حول تقدم روحانى بفارق كبير فى الانتخابات من موقعها، ثم أعادته لاحقا. والواقع أنه لا تناقض بين نتيجة الانتخابات وبين إيران نفسها كأمة. فالإيرانيون شعب صغير السن، منفتح، معتدل، مدنى، لا يحب تدخل رجال الدين أو العسكر فى السياسة. يتميز بمستوى عال من التعليم، يريد نظاما مفتوحا ديمقراطيا يحترم الحريات وحقوق الإنسان، يريد انفتاحا على العالم وعلاقات ودية، والحفاظ على مصالح إيران الحيوية ومن ضمنها برنامج نووى للاستخدام السلمى. انتخاب رجل دين محافظ أو عسكرى من الحرس الثورى ليس سمة ثقافية سياسية إيرانية. وبعد إعلان فوزه رسميا، سيكون على روحانى أن يتحرك بسرعة فى ملفات كبيرة معقدة وملحة. فهناك أجواء ارتياح عامة فى إيران بعد النتيجة، لكن فى نفس الوقت هناك شكوك وتوقعات بمصاعب إذا قرر المرشد والمحافظون تحويل حياته إلى جحيم. ويقول ميسم، شاب إيرانى صوت لروحانى: «يجب أن أرى التغيير بعينى كى أصدقه. لقد وعدنا خاتمى بالتغيير، كنا متحمسين، وصوتنا له مرتين. اليوم أشعر بارتياح كبير لفوز روحانى. لكنه ينبغى أن يلتزم بما وعد به. هذا هو الاختبار. إذا حاربه المحافظون، يجب أن يصارح الشارع ونحن سندافع عنه. خاتمى صمت طويلا على ما تعرض له، فدفعنا نحن الثمن». وعلى غرار ميسم هناك غالبية كبيرة من الشباب الإيرانى متفائلة بشكل حذر. فروحانى الذى تضمن برنامجه إطلاق سراح المعتقلين السياسيين فى إيران «بالاضافة الى الأسماء الكبيرة مثل موسوى وكروبى، هناك المئات الآخرون من أنصار الإصلاحيين»، وتحسين الاقتصاد والتصدى للبطالة، وتحسين علاقات إيران الخارجية، والسعى لرفع العقوبات، وضمان حقوق إيران النووية السلمية، وضمان الحريات العامة والشخصية وحرية الصحافة والرأى والتعبير والمساواة فى الأجور بين النساء والرجال، عليه أن يعمل على تحقيق كل هذه الوعود بالتعاون مع المرشد الأعلى والحرس الثورى، وهذا تحد كبير. لكن وعلى الرغم من أن المرشد مدعوما بالحرس هو الحاكم الفعلى القوى لإيران، فإن انتخاب روحانى يمكن أن يغير كثيرا تماما، كما فعل انتخاب خاتمى 1997. فلأول مرة منذ 2005 سيكون فى دوائر الحكم الإيرانى «ممثلا عن الإصلاحيين» بعدما استطاع المرشد والحرس الثورى تهميش الإصلاحيين فى البرلمان والحكومة والرئاسة والقضاء والإعلام والمجال الثقافى. وما سيفعله انتخاب روحانى هو إعادة الحياة للحركة الإصلاحية. وتخفيف القيود على صحافة الإصلاحيين وسياسييهم ومثقفيهم وناشطيهم، وتحريك مياه السياسة الإيرانية داخليا وإقليميا ودوليا. وبعدما كان رفسنجانى وخاتمى ملاحقان طوال الوقت بالاتهامات، وموسوى وكروبى تحت الإقامة الجبرية، سيكون بإمكانهم أن يتحركوا الآن بحرية أكبر. ولم يخف روحانى أن من أهدافه الأساسية تغيير حالة الاستقطاب السياسى الحاد فى إيران اليوم، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفتح السياسة فى إيران لكل التيارات الاجتماعية والسياسية والثقافية التى لها حضور فى الشارع. لكن يمكن القول أيضا إن الطريق لن يكون سهلا، وإن روحانى سيعانى كما عانى خاتمى. فالمحافظون لن يسهلوا له الأمور، وسيكون محاصرا بالأعداء أكثر من الأصدقاء. إلا أن الإصلاحيين فى إيران لا بد أنهم استفادوا من تجربة خاتمى. فما الذى علمتهم إياه تلك تجربة المريرة؟ الإجابة هى: المواجهة. فخلال سنوات حكم خاتمى، شنت الدولة السرية الموازية فى إيران أكبر عملية تصفية لقيادات ومثقفى وكوادر الإصلاحيين. لم يتصد خاتمى لهذا بالقوة المطلوبة ولا بقدر شعبيته فى الشارع. فواصل المحافظون والعسكر تدمير ما بقى من الحركة الإصلاحية ورموزها حتى وصلت إيران إلى 2009. وأى معركة مقبلة بين الإصلاحيين والمحافظين على خلفية نفس القضايا، يمكن أن تغير مصير إيران. فليس سرا أن سؤال ولاية الفقيه مطروح منذ تولى خامنئى السلطة، وليس سرا أن غالبية الإيرانيين تريد تقييد الصلاحيات المطلقة للمرشد الأعلى بالقوانين. ويقول سياسى إصلاحى بارز مقرب من خاتمى: «الدستور والنظام السياسى الإيرانى قابل للإصلاح. هناك مؤسسات تصادر على حق الشعب فى القرار ولا مكان لها فى نظام ديمقراطى. خاتمى وغيره من الإصلاحيين دائما ما أشاروا إلى هذه الحقيقة. كثير منهم مثلا لا يدعم استمرار مجلس الأوصياء، الذى يقرر من له حق الترشح من عدمه. هذا النقاش حول الديمقراطية الإيرانية توقف منذ نهاية عهد خاتمى. والجميع يعلم ماذا حدث خلال السنوات الماضية. الانتخابات النزيهة وحدها لا تصنع ديمقراطية، فصل السلطات والمراقبة والشفافية هى ما يصنع الديمقراطية. إنها معركة فى إيران مستمرة منذ 1979، وسنواصل فصولها مجددا».