لم يستعِن خامنئى بآيات الله ضمن حلقته الضيقة ومكتبه على غرار الخمينى.. بل فضَّل الحرس الثورى إذا كان فى تركيا «دولة عميقة» فإن فى إيران «دولة موازية».. ففيها جيشان ومؤسستان دينيتان وحكومتان عندما يتوجه اليوم 50 مليون إيرانى لهم حق التصويت فى الانتخابات الرئاسية الحادية عشرة، لانتخاب سابع رئيس منذ الثورة الإيرانية، لا بد أن يكون السؤال الملحّ هو: لماذا؟ ففى النهاية المرشد الأعلى آية الله على خامنئى هو صاحب القول النهائى فى كل المسائل الأساسية، وأى رئيس يحاول لعب دور قوى، سواء كان إصلاحيا أو محافظا، يخرج من القصر الرئاسى مثخنا بالجراح، مطعونا فى كفاءته وولائه، تماما كما انتهى محمد خاتمى ومحمود أحمدى نجاد. فلماذا انتخابات؟ ولماذا رئيس؟ لا بد أن هذا السؤال خطر حتى على بال خامنئى نفسه. فبعد أزمة انتخابات 2009 بحث مع مستشاريه إلغاء منصب الرئيس، وإعادة منصب رئيس الوزراء، لكنه لم يفعل. وهو اليوم يجهز نفسه للتعامل مع رئيس آخر.. وليس جديدا، فالمرشحون الأساسيون هذه المرة يعرفهم المرشد جيدا وعملوا معه فترات طويلة، خصوصا على أكبر ولايتى وحسن روحانى. ومع دخول إيران مرحلة الصمت الانتخابى أمس تمهيدا للتصويت اليوم، لم تظهر أى مؤشرات على تقدم أى مرشح بشكل لافت على الآخرين، ربما بخلاف إعلان جمعيتين لرجال الدين فى قم دعم إحداهما ولايتى، ودعم الثانية روحانى، وتسريبات مصادر من الحرس الثورى أن عمدة طهران والقائد السابق فى قوات الحرس محمد باقر قليباق متقدم على منافسيه. من حق الجميع التطلع إلى رئيس جديد، فالأعوام الأربعة الماضية كانت «كابوسا» للحكم فى إيران بسبب صراع الأجنحة. الإصلاحيون ليس لديهم رغبة فى الشماتة فى أحمدى نجاد، فهم ذاقوا من الكأس نفسها، ويعرفون أن إدارة الحكم فى إيران، أسهل من إدارة العلاقة مع المرشد. وبينما ينتظر الإيرانيون رئيسهم الجديد، فإن خامنئى يترقب إغلاق صفحة أحمدى نجاد. وحسب أحد قيادات الحركة الإصلاحية فإن «خامنئى لم يترقب انتخابات كما ترقب هذه الانتخابات. أعتقد أنه سيتنفس الصعداء عندما يجد عنوان صحيفة كيهان (انتخاب فلان رئيسا سابعا للجمهورية الإسلامية). لا يهم الاسم. المهم أنه ليس أحمدى نجاد». وإذا كان إيرانيون شبهوا الوضع فى بلادهم يوما ما بالدولة العميقة على غرار الحالة التركية، فربما الأصح هو «الدولة الموازية»، ففى إيران جيش نظامى تقليدى، وجيش آخر من الحرس الثورى وقوات الباسيج. هناك طبقة رجال الدين المعروفة فى قم، وطبقة رجال دين أخرى تتبع للنظام وخرجت من عباءته. وهناك رئيس جمهورية وبرلمان منتخب، لكن هناك مكتب المرشد وحلقته الضيقة التى تضطلع بمهام الإدارة وتحديد السياسات، وهناك الاقتصاد الرسمى، لكن هناك أيضا اقتصاد الظل. وغنى عن القول أن المؤسسات الموازية التى تعمل فى الظل هى التى تدير كل شىء. من ثَم فإن الإجابة عن سؤال «من يحكم إيران؟» معقدة جدا، فبينما من الواضح أن الرئيس المنتخب لا يحكم، فإن من يحكمون فعليا متداخلون، متشعبون، غامضون، يتبادلون الأدوار، ويتبادلون حتى الملابس، أو بمعنى أصح يتبادلون العمامات الدينية والخوذات العسكرية والبدل المدنية. فكثير من قيادات ومسؤولى الحرس الثورى درسوا فى الحوزات العملية فى قم أو مشهد أو طهران أو أصفهان. وكثير منهم دخل الحرس الثورى وهو يلبس عمامته فى إطار عملية «تدريب أيديولوجى عقدى» فى مؤسسات الحرس. لكن كثيرين أيضا خلعوا ملابس رجال الدين وارتدوا الخوذات العسكرية كى ينخرطوا فى السلك العسكرى. هؤلاء أيضا بعد سنوات فى الحرس الثورى خلعوا الخوذات وارتدوا البدل، كى يترشحوا فى البرلمان ويصبحوا سياسيين. كلمة السر فى تفكيك هذا التعقيد هى «الولاء»، فخامنئى الذى جاء بشرعية غير مكتملة، لم يجد أمامه، ردا على تحفظ كبار آيات الله فى قم على اختياره، غير «صنع» طبقة جديدة من رجال الدين و«صنع» طبقة جديدة من العسكر، و«صنع» طبقة جديدة من السياسيين، فحوَّل رجال الدين إلى موظفين، وحوَّل الحرس الثورى إلى مؤسسة عسكرية-عقدية تدور فى فلك ولاية الفقيه. وعندما وجد أن الطبقة السياسية فى التسعينيات تظهر من الاستقلالية ما يمكن أن يهدد موقعه، دفع برجال الحرس الثورى إلى السياسة. فكثيرون من آيات الله فى قم لم يعارضوا فقط تولى خامنئى لمنصب ولاية الفقيه لأنه كان يفتقر إلى المقومات الدينية اللازمة (كان حجة الإسلام ورفع فجأة إلى آية الله كى ينصّب خلفا لآية الله الخمينى)، بل عارضوا مبرر وجوده وهو مبدأ ولاية الفقيه أو على الأقل التفسير الرسمى له، والذى يقوم على أن الولى الفقيه «مختار» من الله، ولا يحاسب من الشعب. ولتعويض نقص الشرعية، بدأت السلطات تتدخل فى عمل الحوزة وتنشئ حوزات تتبع لها، وتمول كثيرًا من الطلبة فى قم، فبات عشرات الآلاف من رجال الدين يأخذون رواتب من مكتب تنسيق عمل الحوزات العلمية فى تقويض كامل لاستقلالية رجال الدين التى كانت أهم سمة تميز المؤسسة الدينية الشيعية. إذ كان آيات الله يمولون أنفسهم وتلاميذهم ومدارسهم مما يحصلون عليه من خمس الزكاة من متبعى مذاهبهم فى الفتاوى والتفسير. وتدريجيا همش دور الحوزة فى صنع القرارات فى طهران، ولم يعد لها «دور منتظم» فى الحكم أو الاستشارة منذ بداية حكم خامنئى. وحتى المناصب التى يجب أن يتولاها آيات الله بحسب الدستور الإيرانى، مثل منصب الولى الفقيه، وأعضاء مجلس الخبراء، ورئيس الاستخبارات ورئيس الجهاز القضائى، كل هذه المناصب لا تستشار فيها حوزة قم. بل تقدمها الحكومة نفسها، وتختار آيات الله ليس من قلب قم، لكن من خلال حوزات خاصة تتبع الحرس الثورى أو مقربة منه تدرب رجال الدين الذين يعملون فى مؤسسات الحرس الثورى أو فى الحكومة. لم تفقد الحوزة فى قم كونها مصدر الشرعية للنظام، لكنها أضعفت بعد وفاة أو إسكات كثير من آيات الله الكبار مثل آية الله وحيد خراسانى وآية الله الخوئى وآية الله منتظرى وآية الله طاهرى أصفهانى وآية الله مكارم شيرازى. فوحدة قوية من الحرس الثورى مثل «الإمام الصادق 83» المكونة من نحو 2000 شخص، تعمل فى قم لتقييد ومراقبة أكثر من 200 ألف رجل دين فى الحوزة العلمية. ويقول أحد قيادات الحركة الإصلاحية فى إيران إن النفوذ الكبير للحرس الثورى همش دور رجال الدين تدريجيا، ف95% من رجال الدين الإيرانيين فى وضع اقتصادى سيئ اليوم و«تتقلص أعداد رجال الدين فى الحكومة والبرلمان بشكل متواصل بسبب تضاؤل العلاقة بينهم وبين مصادر الثروة. لهذا نجد اليوم الحوزة فى قم تميل لمرشحين هما ولايتى، وروحانى، وليس قطعا لأى مرشح محسوب بشكل صريح على الحرس الثورى». وفى مسعى إضافى لتعزيز سلطته ونفوذه، رأس المرشد الأعلى أيضا عشرات من الهيئات من بينها «لجنة امداد الإمام الخمينى» التى تمد 4 ملايين أسرة إيرانية بمساعدات مادية وعينية، ومؤسسة شهيد، ومؤسسة الإسكان، وحركة التعليم، والمجلس الأعلى لثقافة الثورة، ومنظمة الدعاية الإسلامية، ولجان الأرض، ومؤسسة المظلومين، وهى كلها مؤسسات مساعدات وإعاشة وقروض وإسكان وتوفير فرص تعليمية. القوة المطلقة التى يتمتع بها المرشد اليوم، والنفوذ غير المسبوق الذى يتمتع به الحرس اليوم، مرتبطان، أى لم يكن من الممكن للمرشد أن يمد قوته إلى هذه الدرجة، ولا للحرس الثورى أن يقوى بهذه الطريقة دون العلاقة الخاصة بين الطرفين. فبينما كان آية الله الخمينى محاطا دائما برجال دين ومدنيين، فإن خامنئى محاط بالعسكر، وهو ما يبدو واضحا فى تركيبة مكتبه، فأهم المسؤولين فى مكتب خامنئى من الحرس الثورى، وعلى رأسهم محمد محمدى كلبيكانى (رئيس مكتب خامنئى وكان نائبا فى وزارة الاستخبارات)، وعلى أصغر مير حجازى (مدير الأمن فى مكتب خامنئى ويدير «حرس ولى الأمر» المسؤول عن حماية المرشد. وقد لعب حجازى دورا بارزا فى قمع الإصلاحيين خلال سنوات خاتمى ووضعته واشنطن على لائحة العقوبات مطلع هذا الشهر)، ووحيد حقانيان (قائد سابق فى الحرس الثورى يشغل منصب نائب رئيس مكتب خامنئى)، وذلك فى تناقض كبير مع الخمينى الذى اختار مساعديه وطاقم مكتبه من آيات الله بارزين فى قم خلال سنوات حكمه. وبينما طور الحرس الثورى «أيديولوجية» سياسية-عسكرية لأفراده تتم عبر مئات من جامعات الحرس وحوزاته العلمية المستقلة، الجوهر فيها هو الولاء المطلق لولاية الفقيه، ثبتت سنوات حكم محمود أحمدى نجاد (أول رئيس من الحرس الثورى) نفوذ الحرس سياسيا واقتصاديا. فأكثر من 85% من الذين تولوا مناصب وزارية فى حكومات أحمدى نجاد على مدار 8 سنوات كانوا من الحرس الثورى أو لهم خلفية عسكرية-أمنية. ونفس الشىء ينطبق على البرلمان. وغنى عن القول أيضا أن 100% من العسكريين الذين شغلوا مناصب فى الحكومة أو البرلمان جاؤوا حصريا من الحرس الثورى (120 ألفًا تقريبا) لا من الجيش النظامى الإيرانى (300 ألف تقريبا). ومع العقوبات الاقتصادية تعززت مكانة ودور الحرس الثورى، فالشركات التى تتبع الحرس الثورى مثل شركة «خاتم الأنبياء» وغيرها من مؤسسات الحرس، باتت تسيطر على الاقتصاد فى عقود هامة فى كل المجالات وعلى رأسها صناعة النفط. وبينما كانت ميزانية الحرس الثورى سنويا 6 مليارات دولار، حصل الحرس على عقود نفطية بقيمة 32 مليار دولار من وزارة النفط للتنقيب وتطوير صناعة النفط والغاز خلال السنوات القليلة الماضية، بالإضافة إلى دخوله فى صناعة السينما والأندية الرياضية والإعلان والإعلام. واليوم يشعر الحرس الثورى بأنه الضلع الآخر فى الحكم، وحامى النظام. فقبل أيام قال نائب ممثل المرشد الأعلى فى الحرس الثورى البرجيدير محمد حسين سبهر: «فى هذه الأوقات الخطرة أمام الحرس الثورى وقوات الباسيج مسؤوليات جسيمة لمواجهة مؤامرات الأعداء ضد الجهورية الإسلامية. وعليهم أن يوفوا بالتزاماتهم فى إطار توجيهات المرشد الأعلى». وقبل أسبوع قال روح الله نورى رئيس وحدة «ثأر الله» التابعة للحرس الثورى فى محافظة كرمان: «واجب وعمل الحرس الثورى وقوات الباسيج الدفاع عن المبادئ والقيم الرفيعة للجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه»، رافضا فكرة «الحزبية السياسية» لأنها تتعارض مع فكرة «ولاية الفقيه». أما قائد قوات الباسيج محمد رضا نجادى فقال: «الرئيس الإيرانى الجديد يجب أن يدور حول ولاية الفقيه». لذلك لم يكن مدهشا أن يثور قليباف قائلا عندما وصفه البعض بالتكنوقراطى: «متى قلت إننى تكنوقراطى؟ كيف يكون قليباف الذى وقف أمام دبابة عراقية وعمره 18 عاما تكنوقراطيا؟! التكنوقراطى هو الشخص الذى لم يرَ لون جبهة الحرب فى حياته». كان المفكر الإيرانى محسن كديور لخص الوضع الحالى بقوله: «تدريجيا ومع الزمن بات حيز السلطة يضيق أكثر فأكثر. بات مقصورا على المرشد الأعلى والمؤمنين بولاية الفقيه، ومن ثَم صار هناك عرف لا قانون مكتوب، وهو أنه إذا أراد شخص أن يعمل فى السياسة فعليه أن يؤمن بولاية الفقيه، إذا لم تكن مؤمنا، لا يمكنك المشاركة لا فى البرلمان ولا فى الرئاسة ولا فى المجالس المحلية أو كحاكم لأى منطقة». هذه الانتخابات ليست حول الاقتصاد والسياسة الخارجية والحريات، بل حول ولاية الفقيه. ومحصلة كل هذا أن ما يحكم الآن «آيديولوجية» لا فرد.