وتستمر الحياة فى إرغام الواحد منا على معاملة الناس بالرغم من أن السعادة تكمن فى عدم التعامل معهم! فحتى إن أردت أن تبتعد عنهم فسيبحثون عنك. بدون فلسفة وببساطة، الفرافير فى حالة بحث مستمرة عن فرافير آخرين حتى يكونوا أسيادا عليهم! هو: أنت رايح فين؟ أنا: يعنى إيه رايح فين؟! هو: أنا اللى باسألك ماشى من هنا رايح فين؟ أنا: أنا كل يوم بعدى من هنا وعمر ما حد سألنى، إشمعنى النهارده؟! هو: أنا مباحث أمن السفارة! أنا: أنا باشتغل فى العمارة اللى هناك دية، فى حاجة تانية؟ هو: لا خلاص. أنا: وهو أنت بتسأل كل اللى بيعدى من هنا؟ هو: "بصلى حتة دين بصة" وقالى أيوه! تيقنت من هذه النظرة أنه صاحب "عقدة نقص" ولهذا أردت أن أعامله كمريض نفسي! أنا: ماشى، صباح الفل وأعطيته ظهرى ومشيت، لم يرد عليا وظل واقفا فى مكانه ينظر إلىّ، فاشتطت غيظا بسبب عدم رد الصباح، فرجعت إليه ووقفت أمامه مباشرةً ناظرا فى عينيه. أنا: صباح الخير، ولكنه لم يرد أيضا. أحد الأشخاص بجانبه مبتسما وبشوشا: صباح النور يا باشا وربنا يكرمك ويفتح عليك! استدرت صامتا وذهبت إلى عملى متذكرا يوسف إدريس! هذا الحديث تم بينى وبين أحد الأشخاص بجوار إحدى السفارات فى جاردن سيتى. لن أبدى اعتراضى، وأتفهم جيدا أننى بجوار سفارة ولكن يجب أن يتم سؤالى عن طريق أحد الضباط أو عن طريق أصحاب الزى المدنى ولكن بعد أن يتم إبراز بطاقته الشخصية لى، فليس من المعقول أو الطبيعى أن يتم مساءلة الناس فى الشارع على أيدى أناس مدنيين. الغريب أننى بعد أن جاوبته لم يسألنى عن أى تحقيق شخصية وكأن السؤال كان فى الأساس بغرض "السخافة" و"الرزالة"! ما حدث معى هو تجسيد لما قرأته فى مسرحية "الفرافير" ليوسف إدريس المنشورة لدار نهضة مصر. المسرحية تتحدث عن العلاقة بين الفرافير والأسياد، والمقصود هنا بالفرافير هم العاملون عند الأسياد. المخبر الذى هو فرفور عند حضرة الضابط أراد أن يعمل فيها سيدا على أحد المارين! نحن جميعا فرافير لأننا نعمل عند شخص آخر الذى هو سيد على مجموعة من البشر ولكنه أيضا بالضرورة فرفور عند سيد آخر. يبدى فرفور بطل المسرحية اعتراضه على هذا النظام الذى هو بمثابة نظام عبودية مقنن وليس نظاما مبنيا على الحق والعدل والمساواة والحرية. المصيبة أن البشر هم من أسسوا هذا النظام ولكنهم فى قناعة تامة بحكم الثقافات الموروثة خطأ أن هذا نظام الكون وأن من يعترض عليه، ليس إلا كافرا! نظام الفرافير والأسياد هذا جلى وواضح فى مختلف الهيئات الحكومية والخاصة. فقط أذهب إلى أحد البنوك أو الشهر العقارى أو المرور وراقب ما يحدث من الناس، الكل فى حالة من التمثيل الدائم لدور الفرفور والسيد! على سبيل المثال، عند دخول أحدكم أيًّا من الهيئات الحكومية أو الخاصة، فأنت فى الأساس فرفور عند السيد الذى هو موظف الهيئة والذى هو فرفور عند مدير الهيئة... إلى آخره! ولكن إن كنت من الناس المهمين، ستصبح وعلى الفور سيدا على الموظف وعلى سيد الموظف كمان! أيها الشعب المتدين زيفًا وزورًا، قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص معاتبًا إياه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!".
هذا فقط موقف بسيط من أن التعامل مع البشر فى هذه الأيام وفى هذا البلد لن يجدى ولن ينفع وإنما سيجلب لك الأمراض، "السعادة هى الابتعاد عن البشر"! وهذه ليست دعوة إلى العزلة أو التوحد ولكنه يقين توصلت إليه منذ بضع سنوات.
إذن، نحن ندعوك إلى الابتعاد عن صنف البشر الحالى والذهاب إلى عالم الكتب وإلى عالم القراءة! المقطع الشعرى الذى قاله "محمود درويش" من أن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" ينطبق بالفعل على القراءة! فهى حالة من الحديث الصامت المتحضر والمتمدن بين القارئ والكاتب، فهو حديث بين حبر وأفكار الكاتب وبين عيون ووجدان القارئ ولن أبالغ إن قلت إنه مثل أحاديث العاشقين.
نصيحة أخيرة: "كلما صادفك موقف "عكننك" أو "عكر مزاجك" بسبب محاولة أحد الفرافير أن يكون عليك سيدًا، اذهب مسرعا إلى الكتب وإلى القراءة عامة وإلى يوسف إدريس الذى أجدنى دائما ما أتساءل: من هو يوسف إدريس؟ هل هو كاتب؟ لا هل هو أديب وفنان؟ لا أيضا هل هو مفكر؟ لا أيضا هل هو فيلسوف؟ لا أيضا يوسف إدريس هو يوسف إدريس!