ربما بالغ أغلبنا فى الفرحة يوم 11 فبراير 2011، اليوم الذى كان يمثل لقطاعات واسعة من الشعب المصرى بداية عصر جديد، بمن فيهم من كانت لديهم مواقف متحفظة إزاء ما يجرى فى ميدان التحرير وميادين الثورة على مدار 18 يوم، لكنهم نزلوا إلى الشوارع للاحتفال بإعلان رحيل مبارك مساء 11 فبراير منذ 5 سنوات. تصورنا فى هذا اليوم أن المستقبل يفتح أبوابه لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحقق الشعارات التى نادى بها المصريين ودفعوا من دماء وأرواح وعيون أبنائهم ما يكفى ويفيض للبدء فى طريق تحقيقها، وارتفع منسوب الأمل فى عموم مصر لأعلى درجاته منذ عقود طويلة، لكن يبدو الآن واضحا أننا كنا حسنى النوايا بأكثر مما ينبغى، والثورات فى الحقيقة لا تنتصر بحسن النوايا، بل وربما سذج فى بعض الأمور، ولم نكن مدركين حقا لطبيعة تركيبة النظام الذى ثار الشعب ضده ومدى توغله، فتصورنا أن استسلام رأسه تحت وطأة الملايين فى الميادين يعنى أن النظام كله قد سقط وانهار. شئ من هذا بالمناسبة تكرر مرة أخرى من قطاع كبير ممن خرجوا فى يناير مرة أخرى فى يونيو، رغم أنهم تصوروا – أو بعضهم – أنهم قد استفادوا من الدرس السابق الذى تم عقب 25 يناير، لكن مرة أخرى تكررت الأخطاء وإن كانت بشكل مختلف وفى ظرف مختلف بالتأكيد. نعم، سقط مبارك فى 11 فبراير لكن لم يسقط نظامه، الذى تراجع وانكمش وكاد يختفى، لكنه ظل كامنا فى كثير من المواقع والمؤسسات والقطاعات، ثم استغل اللحظة والفرصة المناسبة مع زخم 30 يونيو وما بعدها، ليعود مجددا وبقوة، وساعده فى ذلك أمور كثيرة، من بينها بل وعلى رأسها خطايا الإخوان فى فترة حكمهم وما قبلها، وغياب البديل المتماسك والمتجسد فى تنظيمات سياسية وشعبية، ثم تخاذل وتراجع قوى سياسية عديدة عن المواجهة ولعب الدور المناسب فى تلك المرحلة بحجة التماسك والتكاتف والايد الواحدة وحلف 30 يونيو، الذى لم يكن فى حقيقته سوى تحالف لحظى مؤقت، كتلته الأساسية والرئيسية سياسيا هى قوى يناير واجتماعيا هو الشعب المصرى، الذى خرج مساء 11 فبراير ليحتفل بانتصاره قبل أن يكتمل. الآن تبدو الصورة أكثر وضوحا، وتبدو الاستفادة من الأخطاء أكثر وجوبا، وتبدو شواهد المؤامرة على يناير أكثر إقناعا وظهورا مما يدعونه عن مؤامرة يناير، لكن يبدو أيضا أن ما كنا ضده لا يزال حاضرا، وأن ما هتفنا لأجل تحقيقه لم تقترب أى سلطة لاحقة على مبارك من أول طريقه، بل وربما ارتدت الأمور فى كثير من المجالات والممارسات لنفس ما كان قبل 25 يناير، والأسوأ أنه بصورة قد تكون أكثر فجاجة وتوحشا لكنها مغلفة بأطر تجعل قبولها واستساغتها ممكنا، وبما يجعل الأصوات المعارضة لها إن وجدت أضعف حضورا وأقل تأثيرا، وهذا كله وليد تشويه ضارى وجارى تجاه يناير وكل من انتموا لها أو تعلقوا بحلمها. فى ذكرى 11 فبراير، ورغم قتامة المشهد الراهن، ورغم جلاء حقيقة أن النظام لم يسقط بعد فى سياساته وانحيازاته بغض النظر عن شخوصه، لكن تبقى هناك مكاسب مؤكدة ومحققة، ربما لا يحب بعضنا أن يراها خشية الإفراط فى الأمل مجددا، لكن ومع ذلك يبقى أن ما جرى فى مصر منذ 25 يناير وحتى 11 فبراير، ثم ما تلا بعد ذلك كله، قد غير معادلات عديدة فى هذا البلد والمجتمع، وترك آثارا فى تركيبة الشخصية المصرية، ربما لم تظهر تماما بعد، لكنها على المدى الأطول ستكون حاضرة كحقائق جلية، كما أنها ولدت أجيالا جديدة رغم كل سلبياتها ونزقها أحيانا، إلا أنها تبقى معلقة بحلم لم يتحقق ولم يكتمل، ولا يبدو هناك أفق لإجبارها على التخلى عن هذا الحلم مهما بدت لحظات إحباط ويأس وصمت وحتى ندم، هى فى حقيقتها تعكس غضب مكتوم بأكثر مما تعبر عن استسلام.. إذا كان من درس حقيقى لنا فى هذه الذكرى، فهو أن نستعيد جميعا روح 25 يناير وروح 11 فبراير، روح الطاقة والأمل والرهان على مستقبل أفضل والمبادرة لطرح البدائل وبنائها، دون أن نقع فى فخاخ الأوهام، وأن ندرك حقائق الواقع كما هى ونتعامل على أساسها، وإذا كان من درس حقيقى لغيرنا، فهو أن يناير قد غيرت حقا الكثير، وأنها إذا كانت أسقطت مبارك ولم تسقط نظامه، فلا يزال الشعب الذى قام بها حاضرا، وأجياله الجديدة قادمة ، مهما تعرضوا وتعرضت ثورتهم لتشويه وتضليل وتزييف الوعى.. وستبقى معركة بناء البديل وبناء الوعى هى المهمة الأوجب والأولى من أجل استمرار واستعادة روح يناير، حتى يأتى 11 فبراير حقيقى نحتفل فيه لا بسقوط رأس نظام وإنما ببناء نظام جديد للعيش والحرية والعدالة الإجتماعية والكرامة الإنسانية.