بمنطق الأداء الصحفى والإعلامى المساند للشرطة، ظالمة أو مظلومة، لا يجوز لطبيب فى المطرية أن يشكو السلطة أو يتضرر من ممارسات أحد أفرادها، إلا بعد أن يتأكد تماما أنه لا يوجد أطباء فى أى مكان من الجمهورية لديهم مخالفات أو أخطاء أو جرائم. بالمنطق ذاته لا يجوز لنقابة الأطباء أن تتضامن مع طبيب تم الاعتداء عليه وتوثيق هذا الاعتداء والاعتراف به، طالما أن هناك أطباء ينسون "الفوط" فى بطون المرضى، أو يتسببون بأخطائهم المهنية فى الإضرار بالمرضى. تحتاج إذن إلى أن تكون خاليا من كل عيب ونقيصة، أنت وعائلتك وتجمعك المهنى، حتى تستطيع أن تشكو الشرطة، وتجبر الإعلام الذى يعتقد أن حماية الدولة بالتغطية على أخطائها، أن يتحدث فى صلب الموضوع ويحقق فى شكواك ووقائعها المحددة الأطراف، دون أن يحمل الموضوع تراكمات أخرى، أو أخطاء غيرك، ودون أن يفتح من القضية الرئيسية عشرات القضايا التى تتفرع لتحتوى الجدل فيضيع الخيط الرئيسى، أو يتوه فى دوامة الاتهامات المتبادلة. فيديو الاعتداء على الأطباء هنا تصبح مخاصمة الشرطة أو أحد أفرادها وتجمعاتها هى المستحيل ذاته، لأنك لو كنت محاميا سيترك الإعلام واقعة شكواك، وسيفتح ملف خطايا المحامين، ولو كنت مهندسا، لوجدت بالمصادفة الصفحات والمساحات الإعلامية، تتذكر العمارات التى تنهار، والمهندسين الذين يخالفون ضمائرهم. لذلك يفعل هؤلاء كل شىء. يتحدثون عن كل شىء إلا أصل الموضوع. أخطاء الأطباء. وحكايات المرضى المعذبين بين يدى الدكاترة الجزارين، ولا يقتربون من الجريمة الأساسية، بغير قول على استحياء إنها خطأ فردى، وبينما يتشبثون بفردية الاعتداء الإجرامى المقصود على أطباء فى مرفق عام من جانب القائمين على الأمن، يُعممون الأخطاء الطبية، وكأن الأطباء الذين حاولوا القيام بدورهم لضمان الحماية النقابية لزملائهم وسط مناخ المساومة القائم، أو أولئك المُعتدى عليهم، هم من ارتكبوا أخطاء فى الغربية، أو الشرقية أو غيرهما.
تلك مدرسة راسخة القواعد، لم تكن مصادفة أن تشاهد فتاة يجرى الاعتداء الموثق عليها فى أحد المولات العامة، فتجد من ينبش فى تاريخها وحكاياتها وصورها الشخصية التى لا تمت بصلة للواقعة، فقط ليقول للناس إنها "تستاهل" أن يضربها شاب على الملأ، لكنه منهج مستقر له نُظاره وموجهوه ومعلموه وتلامذته، وجميعهم محترفون فى صرف أنظارك عن الموضوع، ويجتهدون جدا، ليس فى إثبات أنهم أو من يدافعون عنهم صالحون أم لا، وإنما فى إثبات أن الآخرين آثمون مثلهم ومثل من يدافعون عنهم، أو أكثر. وهى مدرسة قديمة جدا فى مفهومها ومنهجها، ولخّصها المصريون فى المثل الشعبى: "خدوهم بالصوت ليغلبوكوا"، لكن أخذ الأطباء بالصوت هذه المرة لن يضمن انتصارًا لمن يريد أن يحمى خطأ، أو يعتبر أن الغضب مما جرى فى مستشفى المطرية أخذ أكثر من حجمه، دون أن يسأل نفسه: ولماذا بدا أنه أخذ أكبر من حجمه؟ هل لأن غضب الأطباء كان مفاجئا، أم موقف النقابة كان غير متوقع؟ أم لأنه ومن الأصل لم تجد الجريمة الأصلية والمسببة للغضب حسما سريعا، وأُريد تقفيلها دفتريا من اللحظات الأولى بصلح إذعان قائم على تبادل التهديد بالمحاضر والتقارير الطبية على طريقة خناقات الحواري، حين يسارع الجانى بتشريح نفسه ليذهب لقسم الشرطة "سايح" فى دمه مثل ضحيته. هل لأن هناك ثقة بالغة أن الشرطة كمؤسسة، تحمى رجالها المتجاوزين حتى الرمق الأخير، ولا تتخلى عنهم إلا بعد ضغط واضح، شعبى أو قانونى أو سياسى؟ لكن لم يثبت مسبقا أن مواطنا جرى الاعتداء عليه فى قسم شرطة، حصل على حقه بمجرد أن سلك الطريق القانونى التقليدى هكذا بمفرده ودون مظلة دعم حقوقية أو شعبية أو إعلامية، والنماذج واضحة وكثيرة وكاشفة، منذ مصرع خالد سعيد وما دفعته الدولة وقتها لتحمى ضابط واثنين من المخبرين، سواء بتشويه الضحية أو تلفيق تقارير الطب الشرعى، وإدارة الأذرع الإعلامية فى اتجاه تهيئة الناس إلى قبول أنه "يستاهل" القتل. هذا النمط فى الإدارة هو الذى حوّل قضية مستشفى المطرية، من جريمة محددة الأطراف ارتكبها أمناء شرطة محددون بالاسم، فى حق أطباء بالمستشفى محددون أيضا بالاسم، والقانون الناجز المتجرد الأعمى الخالي من التأثيرات كفيل بحسمها، إلى أزمة كبرى بين غالبية الأطباء كمجتمع، ونقابتهم كمؤسسة، وبين كل أمناء الشرطة كجماعة وظيفية وبين وزارة الداخلية كمؤسسة، وبدلا من احتواء الأزمة فى إطار "الجريمة" تطايرت الشظايا بمعاونة إعلام "خدوهم بالصوت"، لتضرب فى اتجاهات متعددة، ب"تلطيش" ونبش وتجريح امتد لكل شىء، حتى وصل إلى اعتبار الشعر الأبيض مدخلاً لسباب ومعايرة أناس لا يطلبون سوى إعمال القانون على من أخطأ، ووقف تبرير الأخطاء أو حماية المتجاوزين. إذن الملائكة فقط تستطيع أن تدخل مع الشرطة "أفرادا ومؤسسة" فى مخاصمة وهى تعرف أن الأمر لن يخرج عن نطاق المخاصمة وموضوعها وواقعتها، لأن مدرسة البحث للخصم عن خطأ حتى يطغى على الخطأ الرئيسى، أو يمكن ابتزازه به، لإظهار الجميع فاسدين، فتتوه الحقائق، لن تجد لها مكانا مع الملائكة، فتأكد من صحيفتك الجنائية قبل أن تفكر فى أن تشكو أحد منسوبى الشرطة، وإذا وجدتها خالية من العيوب فتأكد من صحف أهلك وجيرانك وأبناء مهنتك، واعلم أنك إن عزمت ستكون فى مواجهة مع خصمك ومن خلفه مؤسسة أسطورية النفوذ، وإعلام محترف فى قلب الحقائق ولوم الضحايا، ومن قبل كل ذلك دولة غشوم تترك الشرارات لتصبح حرائق، ثم تتساءل فى سذاجة: لماذا تأخذ الأمور أكبر من حجمها؟!