رحم الله وكيل النيابة محمد نور الذي حفظ التحقيق إداريًا مع الدكتور طه حسين في القضية التي رفعها واحد من المتشددين إياهم عندما أصدر الأستاذ العميد كتابه الشهير (في الشعر الجاهلي) عام 1926، وقال وكيل النيابة ما معناه (إن هذا الكتاب بحث جاد في التاريخ والأدب لا يصح أن يحبس من أجله أحد، وهو اجتهاد مشكور، حتى لو اختلف بعضهم مع النتائج التي توصل إليها الباحث الدكتور طه حسين). تذكرت وكيل النيابة المحترم هذا وأنا أتابع الحكم بحبس الباحث إسلام بحيري سنة بتهمة (ازدراء الأديان)، وتساءلت... ما الفرق بين مصر 1926، وبين مصر 2015؟ وكيف تمتع وكيل النيابة القديم بهذه الحصافة الذهنية التي جعلته ينحاز إلى حرية الفكر والإبداع واحترام العقل، بينما أمسك ضيق الأفق بعقول الكثير من رجال هذه الأيام حتى لو كانوا يتبوؤن المناصب الكبرى في النيابة والقضاء؟ أجل... لقد كانت مصر في سنة 1926 تعرف ماذا تريد بعد ثورة 1919، إذ قررت اللحاق سريعا بركب الحضارة، وأيقنت أن حرية الفكر هي اللبنة الأولى لبناء دولة عصرية حديثة، وهكذا انطلق المصريون يصدرون الدستور ويكتبون ويؤلفون ويمثلون دون خشية من رقابة على العقول أو تهديد بحبس، فطالعنا كتب لطفي السيد وطه حسين وعلي عبد الرازق وتوفيق الحكيم ومصطفى مشرفة، وارتاد الناس المسرح ليشاهدوا جورج أبيض ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وحسين رياض وفاطمة رشدي وأمينة رزق وعزيزة أمير، وأنصتوا إلى سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب، واستمتعوا بتماثيل مختار ولوحات محمود سعيد وراغب عياد وأحمد صبري. هذه مصر العشرييات والثلاثينيات، تفكر وتبحث وتبدع فتنمو وتزدهر وتتطور حتى نهاية الستينيات رغم الهزيمة العسكرية، ثم جاء السادات وتحالف مع الأمريكان وإسرائيل وجماعات الإسلام السياسي، وأغلق الصحف والمجلات، واعتقل الكتاب والمفكرين، وتولى بعده مبارك فسار على ذات النهج البائس فأدخل البلاد في نفق مظلم قوامه الجمود والإهمال، فاستشرت الأفكار المتعصبة، وفسد التعليم، وسطا القرن الثامن عشر - أكثر القرون المصرية تخلفا - على نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، وتصدر المشهد أصحاب الوجوه القاسية واللحى المخيفة ، فملأوا العقول بالخرافات والخزعبلات وحشروا النساء في ملابس الأزياء القديمة، وقتلوا فرج فودة وطعنوا نجيب محفوظ، وها هم يحبسون إسلام بحيري، بناء على دعوى مباشرة رفعها مواطن، رغم أن المفروض أن النيابة العامة هي التي يجب أن تتولى هذا الأمر إذا رأت ذلك! . المحزن أن الدستور المصري يكفل حرية الرأي والفكر والبحث العلمي (المادتان 65 و66)، ومع ذلك حبسوا إسلام بحيري لأنه بحث وفكر، لكن الكلام شيء، والفعل شيء آخر، فهل ينحاز الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى حرية الفكر، ويصدر عفوا رئيسيًا عن إسلام بحيري، أم أن مصر 1926 كانت أكثر انفتاحا وسماحة من مصر 2015؟ أتأمل صورة إسلام بحيري وهو في طريقه إلى السجن، فأترحم على وكيل النيابة المحترم محمد نور.