كتب - أحمد مطاوع "الليلة الكبيرة ياعمى والعالم كتيرة ماليين الشوادر يابا من الريف والبنادر".. من هنا بدأت الرائعة الأسطورية للشاعر متعدد المواهب صلاح جاهين، والملحن والمطرب سيد مكاوى، والتى جسدت جانبًا من أهم ملامح الحياة المصرية، بخفة ورشاقة سحرت آذان الكبار والصغار وعلقت فى الأذهان حتى وقتنا هذا، رغم مرور أكثر من نصف قرن على إنتاج الأوبريت الأشهر فى التاريخ العربى. الأوبريت الذى وضع النواة الأولى فى تاريخ مسرح العرائس، بإبداعات فنان العرائس الرائد ناجى شاكر، وأخرجه مسرحيًا صلاح السقا، ربط فيه العبقرى جاهين الوجدان بالوطن، من خلال ربط المصرى بتراثه وموطنه والفلكلور الشعبى الأصيل، معتمدًا على مواقف مختلفة فى حياتنا، تجسدت جميعها فى أركان مختلفة من أرجاء المولد، باستخدام شخصيات متنوعة جسدتها عرائس الماريونيت منها "الأراجوز، وبائع الحمص، وبائع البخت، والقهوجى، والمدرس، والعمدة، والرقاصة، ومدرب السباع، والأطفال، والمصوراتى، ومعلن السيرك، والمنشد، والفلاح". "الليلة الكبيرة" لم يكن مجرد عمل فنى، فالأوبريت الشعبى الأعظم فى تاريخ مصر والوطن العربى، قرأ المستقبل الذى نعيشه الآن من خلال تحولات ومراحل متبدلة فى العرض، عكست قدريًا وربما عن غير عمد التدهور والانحدار الذى مرت به مصر الشعبية والفنية والسياسية والثقافية وفى كافة المجالات، فبدأ الأوبريت بالتجمع والاتفاق على الهدف وهو الاحتفال فى حب ولهفة بالمولد الذى يجمع كل الفئات والطبقات، وتلاها السلام على الزمن الجميل فى كوبليه "مع السلامة مع السلامة مع السلامة يا أبو عمة مايلة" وكأنه الوداع قبل مرحلة امتزجت فيها حالة الحب والاستمتاع المتمثلة فى التجمع أمام "الريس حنيترة" الذى يلقى بنغماته ومواويله حالة من الانسجام والشجن عى المستمتعين، يقطعها فجأة القهوجى لتبدأ مرحلة التمييز والفرقة والتقسيم داخل المولد، والتى أسستها كلماته "فى ناس هنا قاعدة كتيرة.. ولاحد قال هات تعميرة.. ولا واحد شاي"، لبرد عليه المعلم -صاحب القهوة- "اللى هيطلب راح يقعد.. واللى ما يطلبش يبعد". فمرورًا بالسيرك يتحول "المولد" إلى مرحلة من الصراع يسيطر فيها "المعلم صاحب القهوة الثانية"، الذى يتحكم فى الحالة المزاجية للمتفرجين ومتعتهم بعدما قطع استعراض الغازية وغنائها، قائلًا "اللى هيطلب راح يقعد.. واللي ما يطلبش يبعد"، لينقلنا الأوبريت بعد ذلك لمرحلة استعراض القوة من خلال "لعبة القوة" والتحدى بين صاحب اللعبة والشباب، ثم "لعبة البمب" والشاب "أبو بدلة جديدة" الذى يسخر منه الجميع فى تحدى، قبل أن يختتم المولد بنهاية مآساوية وكل مجموعة فى المولد فى واد عن الآخر، إذ يعلوا صوت سيدة "ياولا د الحلال بنت تايهة طول كدة.. رجلها الشمال فيها خلخال زي دة"، فيرد عليها رجل "زحمة ياولداه كام عيل تاه"، ثم يختتم الأوبريت حالة التواهان العامة والتى تجسد إلهاء كل منهم فى أمره دون اهتمام بما يحدث للآخرين، ويرددون جميعًا "دى الليلة الكبيرة ياعمى والعالم كتيرة.. ماليين الشوادر يابا من الريف والبنادر". ويسدل الستار على الشيخ الذى يتفقد المولد، رافعًا تكبيرات الآذان أمام مقام صاحب المولد، وكأنها رسالة بأن الله هو فقط من بيده الصلاح وأننا جميعًا سيكون نهايتنا الموت، وافتراض أن هذا الصراع لا طائل منه ولن ينتهى طالما كانت هناك حياة، ليعكس التنقاد بين الأجواء الاحتفالية والغناء واللهو التى طغت على الحالة الروحانية والدينية. هذا التصور والذى حمل نوعًا من الاسقاط، يبدو فى ظاهره مغايرًا للحالة العامة لأوبريت "الليلة الكبيرة"، يضعنا أمام حالة التردى الفنى التى أصابت فن الأوبريت خاصة الشعبي منه، كجزء من الانحدار الذى نعيشه فى كافة المجالات، وافتقاد الذوق الراقى والحرفية والصنعة المتقنة والجودة فى تقديم الأعمال الفنية، فخلال نصف قرن من هذا العمل المبدع ما زلنا نستدعيه فى المناسبات المرتبطة بالمولد النبوى أو كخلفية درامية لأى عمل روائى أو تسجيلى عن الموالد، لم يجد حتى الآن ما يضاهيه أو يزاحمه فى المنافسة على أذن المسمعين، وبالمثل فن العرائس الذى اختفى فجأة ويصارع الآن الحياة كى يطفو على السطح مجددًا، فبعد "الليلة الكبيرة”.. نستطيع حقًا أن نقول مات جاهين ومكاوي وانفض المولد وتاه الأراجوز.