سنكمل اليوم الحديث عن علم السلوك التنظيمى (organizational behavior) من خلال دراسة نظرية أبرهام ماسلو (1943) التى سردت ولخصت احتياجات الأفراد فى هرم من خمس درجات. الدرجة الأولى هى الجانب الفيسيولوجى ويتلخص فى احتياجات الإنسان فى الطعام والمسكن والملبس. أما الدرجة الثانية فهى الأمن والأمان وتتمحور حول احتياجات الإنسان فى الصحة الجيدة والوظيفة والأمان العائلى والمجتمعى. وقد تمت تسمية الدرجتين الأولى والثانية بالاحتياجات الأدنى أو الأقل. يعنى، أول ما يبحث عنه الإنسان فى الحياة هو الطعام والمسكن والملبس، فإن تحققت القاعدة الأولى، يبدأ الإنسان أو الفرد فى البحث عن الأمن والأمان من خلال البحث عن خدمات صحية جيدة وعمل مناسب لتأمين وحماية نفسه وأفراد عائلته أو مجتمعه. أما الدرجة الثالثة فهى احتياجات الفرد إلى الشعور بالحب والانتماء، وهذه الاحتياجات قد تتحقق من خلال الزواج والروابط العائلية أو من خلال عمل صداقات أو قد تتحقق من خلال الانضمام إلى جماعات أو مجموعات تدعو إلى أفكار أو معتقادات دينية. أما الدرجة الرابعة فهى احتياجات الإنسان فى الشعور بالثقة بنفسه من خلال تحقيق إنجازات أو نجاحات مما يزيد من احترام الآخرين له. أما الدرجة الخامسة أو قمة الهرم فهى احتياجات الفرد أو الإنسان إلى تحقيق الذات والشعور بالتفرد والاحترام لنفسه. عند دراسة مثل هذه النظرية بتأنٍّ وتمعنٍ، نستطيع أن نفهم الكثير عن واقع حياتنا الآن سواء كان داخل مصر أو خارجها. فنظرية ماسلو أهميتها تكمن فى تطبيقاتها السياسية بعد أن أعطت الكثير من التفسيرات لما حدث ولما يحدث ولما سوف يحدث من أحداث تاريخية وسياسية بين الشعوب والسلطات أو الأنظمة الحاكمة. باختصار، نظرية ماسلو فسرت لنا كيفية تحكم الأنظمة فى الشعوب والجماهير على اختلاف ألوانهم وثقافاتهم، وهذا ليس بالصعب على الإطلاق إن تم التحكم فى احتياجات الأفراد ومقايضتهم عليها! على سبيل المثال، معظم المصريين (إلا من رحم ربى) لا يتخطون بطموحاتهم واحتياجاتهم الدرجتين الأولى والثانية، فهم فى صراع وبحث دائم عن الحد الأدنى من احتياجات الحياة وليس هذا فقط، بل تتم المقايضة عليهم باسم الاستقرار. يعنى وبوضوح، ارضَ بما أنت عليه ولا تطالب بالحب والانتماء والتقدير وتحقيق الذات ولا تتحدث عن الحرية والعدل والمساواة وإلا لن تجد المأكل والمسكن (وإن كانوا دون المستوى) ولن تحصل على الأمن والأمان (أنا أو الفوضى، أنا أو الإرهاب)! مثال آخر، يتم التحكم فى الشعوب الغربية والتى من المفترض أن تكون على درجة عالية من الوعى والحرية عن طريق مقايضتهم أيضًا على احتياجاتهم من الدرجتين الأولى والثانية ولكن بأسلوب الترهيب والتخويف! من أكثر الوسائل الناجحة فى مختلف العصور للتحكم بالشعوب هى خلق عدو مشترك وتهديد دائم. وهذا ما يفسر خلق الدول الغربية للإرهاب، فى البداية كانت "القاعدة" وفجأة اختفت وظهرت "داعش"! لهذا تستغل الإدارة الأمريكية "الإسلاموفوبيا" (الخوف من الإسلام)، من أجل خلق شعور الخوف والرعب لدى المجتمع الأمريكى. ومن ثم، يكتسب النظام السياسى الأمريكى مزيدًا من الحرية فى فعل ما يحلو له فى العالم الخارجى من دون مساءلة حقيقية من الشعب الأمريكى المغيَّب! خد بالك، النظم الحاكمة تتحكم فى الشعوب بنفس الطريقة وهى الترهيب والتخويف، ولكن الفرق بسيط جدا! فى الدول الغربية، تتم مقايضتهم على حياتهم الإنسانية الكريمة التى تراعى كرامة الإنسان لحد كبير، أما فى الشعوب المتخلفة، فتتم مقايضتهم على استقرار الأوضاع. يعنى وببساطة، فى الدول الخارجية، يوفرون لهم حياة كريمة مقابل عدم مساءلة السلطات عما يفعلونه خارجيا، أما فى الدول المتخلفة، فيوفرون لهم الحد الأدنى من الأمن مقابل الصمت على ما يحدث من فساد أو ظلم سواء كان داخليا أو خارجيا. الشيء الذى يدعو إلى السخرية من الشعوب المتخلفة هو أنها دائما ما ترضخ إلى النظم الحاكمة باسم الاستقرار وعدم الرغبة من الفوضى، على الرغم من أن حياتهم كلها فوضى والاستقرار الذى يتحدثون عنه هو فى الحقيقة "استقرار الفوضى"!
بعيدًا عن الأمثلة السياسية، تفشى وانتشار الإرهاب يرجع إلى نقص فى احتياجات الأفراد من الدرجة الثالثة. هؤلاء الشباب لم يولدوا إرهابيين أو مجرمين ولكنهم ينضمون إلى الجماعات الإرهابية باحثين عن شعور الحب والانتماء إلى شيء ما، وهذا بعد أن فشل المجتمع فى إيجاد هدف عام وشامل ينتمى إليه. وليس هذا فقط، تلك الجماعات الإرهابية لا توفر له شعور الانتماء فقط، ولكن توفر له المأكل والمسكن والزواج والعائلة وأيضًا الأمن والأمان. وكيف لا، فإن حييت فسوف تعش حاكمًا بأمر الله وإن مت فسوف تموت شهيدًا، أى حيًّا عند ربك تُرزق! لا تختلف احتياجات الأفراد والجماهير فى كل أرجاء العالم بما أنها تتبع نظريات علمية دقيقة وأيضا الأنظمة والمجموعات الحاكمة والمستبدة، وأيضا الجماعات الإرهابية لا تختلف لأنها تعمل طبقًا لقانون "الشر"! أرجوك لا تكن ساذجًا، فالمسميات الجميلة مثل الحرية والعدل والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان لا توجد إلا فى الكتب وفى العالم الافتراضى "اليوتوبيا" فقط! اسمع لما قاله صلاح جاهين: "مع إن كل الخلق من أصل طين، وكلهم بينزلوا مغمضين، بعد الدقايق والشهور والسنين، تلاقي ناس أشرار وناس طيبين، وعجبى!".