حين تعتدى دولة كبيرة على دول مجاورة، يُقال إن تلك الدولة «تتحرش» بجيرانها، لا يختلف الأمر -واللفظ- كثيرا عندما تزعج عصابة من الأولاد طفلا ضعيفا أو وحيدا، يُقال أيضا إنهم يتحرشون به. التحرش هو بالأساس فعل ممارسة للقوة ضد طرف ضعيف، لكننا ننسى ذلك حين نتطرق لأشهر أنواعه «التحرش الجنسى»، فنعزوه تارة إلى أسباب اجتماعية كالبطالة والكبت الجنسى، وتارة إلى عيوب الخطاب الدينى على غرار «قطعة اللحم المكشوفة والقطط» إلى آخر هذا الهراء، والواقع أن كل تلك التفسيرات مجرد تغطية -أو تحريض- على الدافع الأساسى للتحرش، وهو «الاستقواء»، استعراض القوة على حساب طرف أضعف. ينكشف ذلك ببساطة حين يكتشف المتحرش أن بصحبة الفتاة من هو أقوى منه، أو حين يجد أنها لم تخَف منه وقررت أن تواجهه، أو إذا كان فى بلد تعاقب بصرامة على التحرش، هنا يختفى -كالسحر- كل هراء الكبت الجنسى ونظريات الذباب والحلوى، ويعود المتحرش فورا إلى طبيعته كجبان يعرف جيدا أنه مخطئ. لكن الاستقواء لا يتوقف بالطبع عند التحرش الجنسى، مثلا، فى أثناء كتابة هذه السطور، تبيت فى السجن دميانة عبد النور (23 سنة)، مدرّسة من محافظة الأقصر، لأن أحد أولياء أمور الطلبة المسلمين، اتهمها بازدراء الدين الإسلامى، تم تمديد حبس دميانة 15 يوما، كأى مجرم خطير، على ذمة التحقيقات، بناءً على شهادات بضعة تلاميذ فى العاشرة من عمرهم، معظمهم أنكر أنها نطقت بأى إساءة، ولا يُنتظر منهم -على أية حال- فهم هذا المصطلح الغامض «ازدراء الأديان»، لكن الأمر أن دميانة مواطنة مسيحية فى محافظة صعيدية، وهذا يكفى جدا لأن يسحبوها من المدرسة إلى السجن، عقابا على بضع كلمات ربما قالتها وربما لم تقلها، ومع ذلك فإن حظها -رغم سوئه- قد يكون أفضل من حظ زميلها المدرس بيشوى كميل من أسيوط، الذى أدين بثلاث سنوات بتهمة ازدراء الإسلام، وأضيف إليهم سنتان بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، وعندما أعرب بيشوى عن غضبه، اتهمه مقيم الدعوى المسلم بسبّه وقذفه، فنال بيشوى سنة إضافية، ليصل المجموع إلى 6 سنوات، أصدرتها محكمة جنح طما، ثم أيّدتها «استئناف سوهاج». أيعقل أن تجرّ معلّما من مدرسته إلى ظلام السجن بتهم عبثية تنتمى إلى العصور الوسطى؟ بلى يمكن، فقط فى مجتمعات العصور الوسطى، مجتمعات ما قبل العقد الاجتماعى، مجتمعات الاستقواء: الاستقواء على المرأة «تحميلها مسؤولية التحرش بها»، الاستقواء على المختلفين «السخرية من سود البشرة، ذبحهم -فى ميدان مصطفى محمود- إن لزم الأمر»، والاستقواء على اللاجئين «تزوّج من لاجئة سورية»، والاستقواء على الطوائف حسب ترتيب «قوتها» فى المجتمع: مسيحيون، شيعة، بهائيون، وتكريس ذلك الاستقواء بالقانون والدستور، لماذا للمسلم حقوق أكثر من المسيحى، وللسنى حقوق أكثر من الشيعى؟ بسبب فارق العدد، لا أكثر، أى فارق القوة. لن تندهش من ذلك إذا تذكرت أن الفقه الإسلامى كرّس القوة «التغلّب» كأهم مفاهيم الحق فى الحكم أو الولاية (س: ما مسوّغات فلان ليصير خليفة المسلمين؟ ج: لقد تغلّب على المنافسين الآخرين)، هذا -باختصار- تاريخ الأربعة عشر قرنا الفائتة، فإذا كان هذا هو مصير أهم منصب «الحاكم»، فلا غرابة فى أن يُنظر إلى الطوائف الأخرى على أنها لا بد أن تعيش فى «كنف المسلمين» دون أن تتساوى معهم، ذلك يسمح لك أن تستقوى عليهم وأن تظهر لمحات من «الرحمة» من وقت إلى آخر، ولذلك فقد كانت القواعد ضد الأضعف واضحة دائما، لكن أين القواعد ضد الأقوى؟ مثلا، يتفنن الفقهاء فى مواصفات الحجاب والنقاب وغيرها من ملابس المرأة، ولكن ما عقوبة من يتحرش بها؟ أبلغنى إن وجدت شيئا. لكن الاستقواء هو معكوس الاستضعاف، وعلى عكس الكلمة الأولى، ستجد الأبحاث الفقهية تسمى الاستضعاف باسمه، لتصف وضع المسلم فى مجتمعات يمثل فيها الأقلية، وتجدها تنصحه هناك بأن يتنازل ويستبطن كى «يتعايش»، لفظة التعايش محبوبة جدا إن كنت مقيما فى دولة أجنبية، مكروهة جدا فى حالة العكس، وعندما تمشى على شاطئ أوروبى لن تخطر على بالك علاقة بين «الحلوى والذباب»، يظهر الذباب هنا فقط، ربما لانتشار القمامة. فلو تخيلنا معادلة لغوية بسيطة، نطرح فيها «الاستضعاف» من «الاستقواء»، سنحصل على ناتج صحيح هو «الاستعلاء»، الكلمة السحرية التى تبرر كل التناقضات السابقة، أنت تملك «الحق»، فمن حقك أن تطبقه بصرامة هنا، وأن تكون مراوغا بصدده فى الخارج، نعم يمكنك أن تسميه: النفاق. وليس صعبا أن ترى أن تلك المفاهيم «الاستقواء، الاستضعاف، الاستعلاء» تكمل بعضها البعض، لكنها تنتمى جميعا إلى عصور ما قبل حقوق الإنسان، حين كانت طائفتك -أو لونك أو قوتك البدنية- هى ما يحدد حقوقك فى المجتمع، أما كونك «إنسانًا» فهذا لا يعنى وحده أى شىء.