تفسير آخر لكلام السيسى أشار إلى صراع ضمنى بين الجيش والرئاسة.. واعتبر خطابه مناورة خطاب مخيِّب للآمال، فالجيش لن يتدخل ولن يتورط، ويكفيه فشل مجلسه العسكرى فى إدارة المرحلة الانتقالية السابقة، أو أن الأمريكان الذين جاؤوا بمرسى لم يعطوا الضوء الأخضر بعد. هذا ما جال فى ذهن البعض، وعلى عكس التأثير فى الجانب الآخر لدى من استقبلوا خطاب السيسى بالأمس بسعادة وارتياح، فالرجل يكاد يعلن ولاءه لمحمد مرسى بشكل قاطع وحاسم، ربما ألمح إلى اشتراك الجيش فى الإشراف على الانتخابات القادمة، لكن الجيش سيظل خارج المعادلة السياسية، خاضعا للسلطة الجديدة أيا كانت عقيدتها أو محاولتها لإسقاط مؤسسات الدولة واحدة تلو أخرى واختراقها بشكل متعاقب بما فى ذلك المؤسسة العسكرية نفسها. وهناك من فسر الخطاب فى سياق صراع ضمنى بين الجيش والرئاسة، فمحتوى الخطاب من وجهة نظر هؤلاء أنه لا يتعدى أن يكون مناورة من شخص بدا لكل من التقوه أنه مختلف عن ثمانية عشر عضوا مثلوا قوام المجلس العسكرى الذى حكم مصر ما بعد مبارك، ظلوا ساجدين للفشل وعابدين للتخبط وسلموا البلد رسميا للإخوان المسلمين برعاية أمريكية، لكن كان هناك شخصان أطاحت أهميتهما بفرص مرسى فى الإطاحة بهما حينما أحال عنان وطنطاوى إلى التقاعد.. وبين هذين الشخصين وزير الدفاع الحالى، الفريق عبد الفتاح السيسى، الذى بدا طوال الوقت مناورا، أكثر ذكاءً، وقادر ربما على التأثير واستخدام كلمات بعينها منتقاة فى توقيتات محددة، حتى إن بدا التعمد فى هذا الفعل واضحا. لكن دعك من الانطباعات التى ربما كان الفعل على أساسها، كما كان فى عهد مبارك مصدرا لارتباك وتخبط يلحق بخطوات القوى السياسية التى كانت قائمة فى ذلك العهد وما زال ميراثها السياسى قائمًا حتى الآن، ولننتقل إلى حديث تاريخ وسياسة لا حديث أحلام وأوهام، ولنشكل الانطباعات بعدها. السؤال الأول هنا: هل نحن نعيش فى نظام ديمقراطى؟ من المؤكد لا، فما نعيشه الآن لا علاقة له بالديمقراطية مضمونا، لكن ربما يكمن الاختلاف حول التصنيف الشكلى ولا شىء آخر، حول ماهية نظام مرسى، هل هو ديمقراطى هجين يجمع ما بين صفات الاستبداد والديمقراطية على غرار النظام السابق، أم أنه سلطوى بشكل كامل، لا يعرف للحكم طريقا غير القمع ولا طريقة غير الفشل؟ ويبقى هنا السؤال الثانى: هل تبادر الجيوش عادة إلى التدخل المباشر لصنع الديمقراطية المنشودة؟ التاريخ يقول لنا إن هذا استثناء قلَّما حدث، بل مرات حدوثه تكاد تُحصَى على أصابع اليد، وهذا طبعا بعيد عن أكليشيهات اليسار المصرى المتأثرة فكريا بتجارب القمع العسكرى الوحشى المفرط فى أمريكا اللاتينية التى لم تعرف لها مصر نظيرًا متطابقًا فى تاريخها العسكرى الحديث، أو تلك المستمدة من أدب لاتينى مرعب أرخ لتلك الحقب وشرحها بتفاصيل جمعت بين الواقع المؤلم والخيال الخصب. ولنعُد إلى الواقع مجددا، فلحظة التدخل العسكرى بشكل عام (سلبيًّا أو إيجابيًّا)، تفرضها أسباب ومقومات، مثل تحركات واسعة جماهيرية كما شهدت مصر وتونس فى بدايات 2011، أما أشكال هذا التدخل تاريخيا فليست محسومة النتائج، فالمبادرة العسكرية بالتدخل الطوعى الإرادى من أجل تحقيق الديمقراطية يكاد يحصيها مثلا أحد الكتب التى أصدرها مركز أبحاث «بروكنجز» الأمريكى حديثا تحت عنوان «تأثير الجيوش فى صناعة الديمقراطية»، والكتاب يحصى بشكل محدود المبادرة بالتدخل لصنع الديمقراطية فى قرارات اتخذها قادة عسكريون شجعان أدركوا أن الديمقراطية حق لشعوبهم وآمنوا بذلك، فهناك فى السنوات الأولى من عمر الولاياتالمتحدة جورج واشنطن صاحب الخلفية العسكرية الذى أسس شكلا ديمقراطيا دستوريا حقيقيا للحكم متمثلا فى حكومة ديمقراطية، وفى تركيا هناك كمال أتاتورك الذى قاد انقلابا رسخ لاحقا لنظام ديقرطى ذى صبغة علمانية جعل تركيا حاليا واحدة من كبرى الدول فى المنطقة، وهناك أدوار لعبها قادة عسكريون فى سبيل ترسيخ نظام ديمقراطى مثل الجنرال السنغالى جين ألفريد ديالوا فى عام 1960، الذى أسس دورا بارزا للجيش فى النظام الذى استقل وأصبح قواما لدولة ديمقراطية. هذا هو الاستثناء الذى يحركه، كما يقول الكاتب، عوامل لم تأتِ من فراغ، تتوقف على الثقافة والتربية والنشأة والشجاعة والتدريب ومستوى تأثير قيادات الصفَّين الأول والثانى فى الجيش واتساع نطاق تأثيرهم وشبكتهم داخله.. لكن هناك الإحصائية التى تقول إن عدد الأنظمة السلطوية التى سقطت فى الفترة ما بين 1974 و1999 هو 85 نظاما، والمفاجأة تقول أيضا إن 55 نظاما منها استُبدل بها نظام سلطوى جديد أو نظام هجين (يجمع بين صفات السطوية والديمقراطية)، فمن نجوا كانوا شعوب 30 دولة فقط، وهنا يقودنا هذا الرقم إلى طبيعة الدور الذى لعبته الجيوش فى فترات تحول تلك الدول الخمس والثمانين، ويبدو من النتيجة أنه كان دورا سلبيا أو عكسيا ومضادا للتحول الديمقراطى الحقيقى فى أغلبه، فالجيوش هنا كانت تمتلك القدرة على الفعل، لكنها لم تفعل أو كان فعلها فى الاتجاه المضاد كما قلنا، وإن ظل الدور الإيجابى قائما لو بقدر ضئيل. فالديمقراطية ليست مظهرا كاذبا تصنعه الحكومات، بل هى حزمة متكاملة من الآليات والوسائل، وراقب هنا كيف يعرفها ناكرس سيرا، وزير الدفاع الإسبانى الأسبق، الذى ألَّف كتابًا هو الآخر تحت عنوان «انتقال الجيوش»، والمقصود بكلمة الانتقال هنا هو الانتقال الديمقراطى، ولكن دعونا نعرف كيف عرف الديمقراطية هذا الرجل المحنَّك دارس السياسية والاقتصاد والمستشار البارز لمؤسسات سياسية وأمنية دولية وكيف فسر مراحلها. يقول سيرا فى كتابه إن الديمقراطية الراسخة والتوافقية تكون قائمة حينما تكون الممارسة من خلال المؤسسات الرسمية هى الخيار الأساسى للعب، حيث لا يمكن لأحد أن يتخيل أن يعمل خارج هذه المؤسسة، فحتى الفاشلون يعوِّلون على الممارسة المؤسسية لاستعادة ما فقدوه. طبعا هذا التعريف ليس واردا فى مصر حتى الآن، ففصيل واحد هو الذى يريد خوض الانتخابات التى يرفضها أغلب القوى السياسية، وحتى لو أُجرِيَت ستظل خيارات اللعبة السياسية قائمة ومفتوحة خارج نتائج سياق تلك الانتخابات، وهذا هو الفعل الأرجح، بل الفعل القادر ربما على اجتذاب طاقات قطاعات واسعة من الشباب الذى لم يرَ الديمقراطية تحققت بعد بشكلها المهترئ الحالى.. ويؤكد الكاتب التعريف السابق حين يقول إن الديمقراطية التوافقية هى التى تجعل كل الفاعلين السياسيين يدركون أن الممارسة السياسية من خلال المؤسسة الديمقراطية (برلمان - أحزاب) هى الطريق الأفضل لتحقيق مصالحهم وأهدافهم. إذن هذا هو التعريف المنضبط من وجهة نظر وزير للدفاع فى بلد دفع العسكر فيه فى اتجاه تحول ديمقراطى، ولكن دعونا نسأل مجددا: ما المقومات التى تدفع الجيوش أو قادتها للتحرك من الأساس نحو اتخاذ فعل سياسى، سواء أكان فعلا مرتعشا (أى إعادة الكرة إلى ملعب الصندوق بعيدًا عن قواعد اللعبة الديمقراطية المتكاملة)، أو إيجابيًّا بالدفع فى اتجاه نظام ديمقراطى حقيقى متكامل العناصر ومحدد القواعد)، أو اتخاذ فعل سلبى (بصناعة ديكتاتورية جديدة)؟ المقومات والمسببات التى قد تبدو متوازية تبرز فى الكتاب الذى تحدثنا عنه فى بداية المقال الذى أصدره مركز «بروكنجز»، والذى يلخص تلك المقومات فى الآتى: 1- حراك جماهيرى واسع، أو فعل محفز لإزاحة السلطة القائمة من فوق مقعدها، أو حرب أهلية. 2- إدراك من القادة العسكريين أن انحيازهم للنظام القائم هو استعداء للشعب ضدهم، وهو استعداء يجعلهم مُجبَرين على مواجهة الشعب بالقمع على المدى القريب، وهو ما يعنى مجازر دموية يخلِّفها سحق الآلة العسكرية للمتظاهرين، وتبعات جنائية ودولية لذلك بالضرورة. 3- ثقافة تقدمية لدى القادة والعسكرين من قيادات الصفَّين الأول والثانى، لم تأتِ من فراغ كما قلنا، بل متأثرة بتربية وتعليم أفكار متقدمة وخبرات أكثر حداثة ومنفتحة على تجارب ديمقراطية حديثة تضع فى طموحات القادة العسكريين أحلاما بوضع متميز ومستقر ومتطور معنويًّا، ومهنيًّا وتكتيكيًّا لجيوشهم. 4- الحالة الموجودة داخل الجيش، وهل هى حالة تذمُّر عامّ من القيادة السياسية، بسبب الرواتب والأجور والترقيات والوضع المجتمعى وضعف الكفاءة القتالية والتكتيكية وإمكانيات امتلاك سلاح متطور، وهل وضع هؤلا من العسكريين متردٍّ بحكم التأثر بالفساد أو الوضع الاقتصادى المنحدر فى بلد ما بسبب فشل اقتصادى وسياسى عام. وأخيرا ما وصفه الكاتب بمصطلح «التشجيع» أو «التحفيز» من القوى الديمقراطية العالمية، وهو مصطلح مهذب انتُقى بعناية يُقصد به إعطاء تلك القوى الدولية (الأمريكيين) الضوء الأخضر لجيش ما بالتدخل من عدمه، أو السماح الضمنى بهذا الفعل، لكون النظام المستبد القائم صار عاجزا عن البقاء، ودعمه يعنى الإسهام فى غياب الاستقرار السياسى أو الحد الأدنى منه فى مساحة تمثل اهتمام هذه الدول الكبرى. تلك هى المقومات الخمس التى من الممكن تلخيصها لسؤال حول إمكانية أن يتحرك العسكريون المصريون لصنع نظام ديمقراطى حقيقى، وحقيقة ما قاله السيسى، هى إجابة مرتبطة بسؤال أشمل حول إمكانية أن تلعب الجيوش وقيادتها العسكرية دورا فى تأسيس ديمقراطية راسخة.. تلك هى الإجابة التنظيرية والبحثية ربما، ولكن هناك إجابة أكثر بساطة تقول إن الأمنيات التى تحمل فى طياتها رغبة تحقيقها دون عناء أو تعب أو معاناة من البشر تظل أمنيات لا أكثر ولا أقل، فالمثل الشعبى الذى سجله الباحث والكاتب المتميز أشرف الشريف على صفحته فى موقع «فيسبوك» مباشرة عقب خطاب السيسى يقول «مَا حَكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِكْ»، وهى إجابة أكثر واقعية واتساقا مع التاريخ وتجربة انطلاق الثورة المصرية فى يناير، التى كانت فعلًا، وأجبرت الجميع على التصرف من مواقع ردّ الفعل.