الكثير جدًا يمكن أن يقال على صورة ذلك الملاك الغارق الذي دفع ثمن خطايا غيره بينما هو لا يتحمل مسئوليتها ولا يعرف أو يفهم عنها شيئا أصلًا. وما أسهل أن ننتقي من الكلمات أبلغها وأكثرها تأثرًا لوصف ذلك المشهد الذي لن تنجح الكلمات في وصفه. إلا أن تاريخنا يمتلئ بمثل هذه الصور وإن لم يتم تسجيلها أو نشرها عاكسة في النهاية صورة وطننا العربي الكبير كله والذي لا قيمه فيه طولًا وعرضًا لكرامة بشر أو لحريته أو حتى لحياته، إلا أن يختار الانسان فيه أن يلجم لسانه ويخنق روحه ويتفانى في الانسحاق أمام هذا الحاكم أو ذاك ليحيا بعد ذلك كالبهيمة الطائعة في الحظيرة يأكل ويشرب وينام مسبحًا بحمد أولياء نعمته قليلها أو حتى كثيرها، وهو فن عربي قديم أصيل وحرفة لها خبراؤها وعباقرتها الذين وصلوا إلى أعلى مراتب الفن والإبداع فيما يفعلون. ثم يأتي مشهد هذا البرئ الصغير ليكشفنا ويديننا جميعا ويعرينا كأبشع ما تكون التعرية، ليس فقط على مستوى تلك القيم الدينية والأخلاقية التي نزلت فينا من دون العالمين، تلك التي ما إن تمسكنا بها لم نضل بعدها أبدًا فتركناها لتصبح برلين اليوم هي مكة العرب والمسلمين وكعبتهم والأقرب لهم حتى من مكة ذاتها وبيت المقدس لأننا مشغولون بقتل أنفسنا وصغارنا بأيادينا. لقد دفع هذا الصغير من عمره ثمن كل الديكتاتوريات العربية المتراكمة منذ نهاية الحقبة الاستعمارية وحتى الآن، في المعتقلات وعلى صلبان الجلد وأعواد المشانق ثمنًا للأمجاد الشخصية لحفنة من الفيلد مارشالات فقط لكي يستمروا حكامًا وما عداهم كلاب رعية لا تساوي أعمارها شيئًا ومن ثم فلم يكن أبدًا من حق هذا الصغير المسكين أن يحيا حياة عادية كباقي الأطفال الصغار، يلعب ويضحك وينمو. انظر معي إلى جذر الأمر وأساسه. بكل بساطه.. لو كان هذا الوطن العربي قد عرف النظام الديمقراطي ومبدأ تداول السلطة لما مات إيلان في البحر! ولما ضاقت بالبشر أوطانهم وأرزاقهم بسبب الفساد ليمتطوا المراكب المطاطية من سواحل مصر وليبيا والجزائر والمغرب وإفريقيا لسنوات ماضية يغامرون بكل شيء من أجل الوصول إلى حيث يمكنهم أن ينقذوا إنسانيتهم بلقمة عيش وبعض من كرامة بعيدًا عن المخابرات العربية وحفنة الحكماء والآباء المنقذين أصحاب عصا الحكمة وصكوك الطاعة العمياء والولاء المطلق بغير قيد أو شرط . لقد رأيت كيف كان مجلس الشعب السوري يستقبل بشار الأسد بالوقوف والصفيق والصراخ يمطرونه بالقبلات اللزجة الممطوطة بمبالغة تثير القرف بينما يشق طريقه للمنصة ليقول كلامه الفارغ عن العزة والكرامة وكأنه المنقذ الفذ الذي لم تلد الأمهات مثله. رأينا في مصر برلمانا كاملًا ينتقل بقضه وقضيضه ليبايع السيد الرئيس. حكام الرضا السامي والمزاج الشخصي فوق كل رقابة أو محاسبة، وعلى رأسهم عبد الناصر النموذج الذي حاولوا جميعهم استنساخه واستحضاره وتقليده في دويلاتهم الخربة التعسة التي تحولت لشركات عائلية، مبارك وولده وحافظ الأسد وولده ، ومعمر القذافي وولده وصدام حسين وولده وعلي عبد الله صالح وولده، والكل يفدي الزعيم بالروح والدم لنصبح جميعًا سخرية العالم، وليصبح وطننا العربي العظيم واحه للديكتاتورية والكذب والنفاق والخوف والرعب والتخلف والانقسام الطائفي، وليكتب على كل صاحب رأي حر أن يحيا لحظات عمره مهددًا في الحد الأدنى بقطع الأرزاق وفي الحد الأقصى بقطع الرؤوس!، ذلك أن حرية الرأي والفكر، بل والكرامة وعزة النفس كلها تتعارض وعلى طول الخط مع الأمن القومي للوطن وأمن الدولة، أي أمن قومي..وأي دولة. استيقظ في الصباح وانظر لوجهك في المرآة ثم استحضر صوره هذا الملاك الصغير ممددًا على الشاطئ وستعرف أنك كنت شريكًا في قتله في كل مرة خالفت فيها ضميرك واخترت الكذب أو السكوت وخشيت من دون الله بشرًا لتؤثر السلامة، أنت وحكامك وكل من صفق وطبل لهم وغني ورقص وهز وسطه، وكل من سكت عليهم وعنهم مفضلًا أن يبلع لهم الزلط، وكل من رضى على نفسه أو لغيره أن يعيش مرتعشًا خائفًا جنب الحيط أو جوا الحيط، وكل سخيف تاجر في جثته الصغيرة واستغلها في الدعاية لهذا النظام أو ذاك على طريقة الفنان محمد صبحي “لو ما شربتش اللبن حاتبقي زي عمو الجرسون”! إن الدولة التي تدوس على دستورها بالحذاء ثم يرتبط عمرها بعمر حاكمها الديكتاتور ويتوقف وجودها على وجوده وبقاؤها على بقائه وأمنها على أمنه هي ليست بدولة أصلًا، بل مجرد حظيرة مملوكة لسيدها وولده وتنتظر دورها في السلخانة إذا غاب أو مات، ولا فرق بعد ذلك بين من يغرق في قارب مطاطي أو في عبارة. ففي مثل هذه الدول ليس أمامك إلا أحد خيارين، أما أن تشرب من البحر أو أن تغرق فيه!