ليس أصعب على النفس من لحظات الوداع وأقساها عندما يتم ذلك في فراق أخير وهذا هو الحال مع جريدة «التحرير»، في إصدارها لآخر أعدادها فاعتبارًا من الغد ستنتهي رحلة المواصلات المٌتكررة في مترو الأنفاق وركوب ميكروباص، إمبابة وصولاً لشارع سوريا والأجرة جنيه وربع وفيه مالا رأت عين أو سمعت أذن ويكفي خناقات الغلابة مع السائقين على الربع جنيه في زمن لم يعد للجنيه أي قيمة على الإطلاق واعتبارًا من الغد لن أمر على «دوووله» محل الفول والطعمية والبتنجان المقلي والمسقعة حيث التهام وجبة «النابالم» الصباحية وعلى باب العمارة التي يوجد بها مقر الجريدة لن يقابلني كما في بداية يوم العمل فرد الأمن الطيب العجوز ذو الصوت الأجش الذي يرحب بالجميع ببشاشة غير مُفتعلة أهلك الزمن تجاعيد وجه صاحبها وعلى باب «التحرير »، في الدور الرابع أطرق الباب الفولاذي بإيقاع خبطات علي بابا الُمتفق عليها مع ياسمين السكرتيرة الُمهذبة فتضغط ذر الدائرة الكهربية فينفتح الباب وبعد عدة صباحات على الزملاء في الطريق إلى مكتبي أصل لأكتشف كالمعتاد أن أحدهم سحب الكرسي في اجتماع مجلس التحرير الصباحي فأذهب لانتقاء كرسي آخر من التنفيذ الذين يأتون مُتأخرًا. استفتح يوم العمل واقعيًا بفتح حسابي على الكمبيوتر لمراجعة الإيميل أملًا أن يأتيني يومًا خبرًا سعيدًا كما لوكنت «في انتظار جودو»، مسرحية عبثية لصمويل بيكي، وهو لايأتي وبعد هذا نظرة سريعة على المواقع ثم أحد المواقع العسكرية المٌتخصصة باللغة الإنجليزية التي أجدها في مجال تخصصي بعد جهد وعناء اعتمادًا على الذات والفضل في هذا لجريدة «التحرير»، بعد هذا الصعود للكافيتريا الشيك مثل صالة التحرير التي أظنها الأكثر أبهة بين الصحف. في جريدة «التحرير» عندما كان المقر في شارع إيران عشت مع الجريدة من أعدادها التجريبية وهناك عشت مع الزملاء أصعب أيام الخطر وسنوات الجمر مع اندلاع عنف الانتفاضة والإخوان وجماعات الإسلام السياسي ووقتها صعدت الجريدة صعودًا هائلًا بين أقرانها من الصحف الأخرى ويالها من أيام مُفعمة بالعمل وروح الفريق سادت بين شباب الجريدة أما في شارع سوريا فقد بدأت الجريدة عهدًا جديدًا كان السعي فيه نحو بناء وضع مؤسسي وهذا أمر شاق في ثقافة إعادة بناء المؤسسات في مصر بصفة عامة. لقد اخترت أن أسوي موقفي وهكذا لن يكون يومي كما اعتدت سأفتقد «تاتش الماوس» ولوحة المفاتيح «المهكعة»، التي استبدلها أحد الزملاء أثناء إجرائي لجراحة كبرى وسأفتقد مكتبي الذي جلست خلفه ساعات طويلة وشاشات التلفزيون الموجودة في كل مكان و.. وكل ماهو مادي أما الذى لن افتقده فهو البشر لأن البعاد عنهم خسران لايعوض أكبر من كل فقدان . من أجل ميريت وفيروز وفادي غدًا ستبدأ رحلة البحث عن عمل جديد.