خالص التهانى للدكتور محمد سالم على صرح مصرى ردىء فاشل كأعظم ما يكون الفشل. كنت أظن قديما أن الحروب الأهلية والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد هى أس الشرور، حينما يقتل شخص ابن وطنه برصاصة وخلاص، ولكن هذه الشركة أقنعتنى تماما أن هذا لا يعدو أن يكون قسوة باطنها رحمة، مقارنة بعملية وحشية منظمة لتدمير جهازك العصبى بمستوى من الفشل والتلامة يصل إلى حد الجريمة. ندمت أشد الندم على قرار تطوير حياتى وطريقة عملى، ناسيا أين أنا، وأعتذر عن ذلك أشد الاعتذار، وهذه للأسف هى آفة من حكم عليه سوء حظه أن يعيش ويعمل خارج مصر لفترات طويلة، فلقد استغنيت فى عملى عن المراجع التقليدية والكتب الضخمة، مكتفيا بالاشتراك فى المواقع الإلكترونية التى تعرض أحدث أحكام النقض والمحكمة الاقتصادية أولا بأول، لأسقط هنا تحت رحمة شركة الإنترنت المصرية وموظفيها الأعاجب، والتى وصلت فى سوئها إلى درجة الحقارة ولا ألومن فيها إلا نفسى، قضايا ثقيلة جالسة تريد عملا وتركيزا، ولكن الجملة الأكثر تكرارا فى وجهى على شاشة الكمبيوتر هى «لا يمكن عرض هذه الصفحة» (This page cannot be displayed!!!!)، تقفز فى وجهك مرارا وتكرار كلما تجرأت وحاولت العمل، ومع الوقت وتراكم التجربة المريرة فأنت تضطر إلى فعل ذلك مع المقدار اللازم من البسملة والدعاء الحار والرعب والأمل واليأس والرجاء، تلاعبك الإنترنت (تى إى داتا) على نحو ليس فقط يجعلك تزهد وتترك الدنيا وتطلع من هدومك، ولكن على نحو يبقيك مسمرا فى الكرسى، لأنها -النت- تعود للحظات يسيرة قبل أن تتبخر مرة أخرى، وبالتالى عليك البقاء جالسا فى مكانك ككلب الصيد فى انتظار المعجزة، محاولا السيطرة على أعصابك، وهكذا فإن العمل الذى قد يستغرق ساعة ينتهى فى خمس ساعات، أربعًا منها فى انتظار الإنترنت التى تذهب وتعود لثوان ثم تذهب وهكذا. ويزيد الطين بلة أننى وللأسف مغرم بالأفلام الوثائقية أيضا وبقراءة الصحف على الإنترنت أيضا، فالنزول إلى شوارع الإسكندرية أصبح فى ذاته إهانة تبقيك محبوسا محاصرا فى بيتك! فالفوضى شاملة والوساخة فى كل مكان، المرور متوقف، والتكاتك والميكروباصات وموتوسيكلات الدليفرى المجنونة والفيسبا التى تصدح بأغانى المهرجانات بلا أرقام ولا تراخيص والمطبات والحفر كلها تحاصرك من كل ناحية بذلك النوع من الكلاكسات الذى يجهزون بها سياراتهم خصيصا لتكون شديدة الضوضاء، بييييييييييب بييييييييب، والوساخة الرهيبة والزبالة تحتاج إلى سيارة بمجدافين، أو أن تضطر إلى ارتداء بدلة غوص فقط لكى تسير فى الشارع، لتصبح وعلى طريقة عمار الشريعى رحمه الله، غواصا فى بحر الزبالة! فلا يبقى لك ملاذا إلا أن تحترم نفسك وتبقى فى بيتك لتستحكم حلقات الحصار من كل جانب، فتستفرد بك شركة الإنترنت إياها لتحطمك صحيا ونفسيا وعصبيا، لعله جهز البث «الراوتر»، فتقوم بتغييره بغرامة محترمة، لعله بوكس التليفون، فتسعى للشركة لمراجعته ولا نتيجة، تتصل بذلك الرقم اللعين للشركة 19777 مرارا وتكرارا، إلى أن تحدث المعجزة فيأتيك صوت فتاة رفيع جدا وحاد يقول فى أذنك «تحت أمرك يا افندم!!!!»، لا أعرف لماذا يختاروهن بذلك الصوت الرفيع جدا جدا، لعله نوع من البرستيج، وما بين عبارات الشكوى والانفعال تعدك بإرسال فنى لمراجعة حالتك البائسة فى موعد مجدد، فلا يأتى أبدا، فتتصل ثانية ولا رد. بالأمس فقط قرأت فى جريدة «التحرير» ذلك الدكتور العبقرى محمد سالم يقول إنه اتخذ من الإجراءات ما يضمن الرد على اتصالات وشكاوى السادة العملاء على ذلك الرقم خلال دقيقة واحدة كحد أقصى! ذهبت إلى التليفون وطلبت لأجد تطورا رهيبا وجذريا، لم يعد هناك جرس يرن من أساسه على الناحية الأخرى وكأنك تطلب الهواء. وأخيرا خطرت على بالى تلك الفكرة الثورية، التعاقد مع شركة أخرى، لأكتشف أنه حتى هذا ممنوع عليك بتواطؤ موظفى الشركة، فالترك والتغيير يتطلبان إجراءات طويلة ومعقدة وفترة زمنية تتجاوز الشهر على طريقة دخول الحمام مش زى خروجه! لأقرأ فى الجرائد أن سيادة الوزير (اللى مش فاهم حاجة) يصرح بأنه سينشئ قائمة سوداء بمن يغيرون الشركات، بينما السيد الدكتور إياه يتغنى فى الصحف بأن هناك تحسنا ملحوظا فى خدمات الشركة! الأونطة عينى عينك! وصل الأمر إلى حد التفكير فى إدخال خط تليفون جديد بالمرة لكى أستعين بشركة أخرى! لو كنت مستثمرا أجنبيا أريد الاستثمار فى مصر لطفشت بالمشوار بسبب سوء خدمة الإنترنت، ولتذهب الاستثمارات فى مصر إلى الجحيم! الفائدة الوحيدة لهذه الشركة هى فائدة طبية بحتة، فلن يكون الأطباء فى حاجة إلى الكشوف والأشعة، فمن منظر عروقك المنتفخة سيتمكنون من رسم خريطة كاملة لدورتك الدموية على الطبيعة. لعل أهم خدمة أتمناها من هذه الشركة ودكتورها محمد سالم هى أن يسهلوا لى إجراءات تركهم بغير رجعة. أظن أن من الأوفق فى هذا البلد أن نحترم أنفسنا ونعود للعربات الكارو وللحمام الزاجل، وإلا فتحن نستحق كل ما يجرى لنا!