لا أظنّ أن مصر مرَّت بموجة حارة عنيفة مثل التى تعرضنا لها جميعا أخيرًا لسببين، أولهما أن درجات الحرارة ارتفعت إلى حد غير مسبوق. وثانيهما أن هذه الموجة تواصلت لأكثر من ثلاثة أسابيع دون أن يقطعها يوم واحد «حنين» فى لهيبه خلال الفترة الطويلة منذ نهاية عيد الفطر، وحدث أنه فى أثناء مكالمة تليفونية مع الصديق عمرو هيبة، الكيميائى النابه، الذى هجر الكيمياء والمدينة، واستقر تقريبا فى العزبة يشرف على الأرض يزرع ويقلع ويستغل أوقات الفراغ الطويلة فى ممارسة الرسم، حيث يفاجئنا من حين لآخر بمعرض للوحاته الرائعة، وهو كفنان تشكيلى ذائع الصيت داخل مصر وخارجها.. المهم فى المكالمة التليفونية معه تطرق الحديث بطبيعة الحال إلى الفرن الذى نعيش فيه، وشكوت من أنه حتى فى الليل لا تنكسر حدة الحر، فقال لى عمرو: اطمئن سوف يبدأ الليل «يطرى» اعتبارًا من الليلة أو غد، لأن «مسرى» بدأ وفيه تبدأ الحرارة فى الانخفاض فى الصباح الباكر والليل، وعندما مازحته قائلا ده باعتبارك خبيرا فى الأرصاد، رد على الفور: لأ.. باعتبارى فلاح مذاكر كويس الشهور القبطية، وفى اليوم التالى للمكالمة بدأت فى الحادية عشرة مساء نسمة ندية جميلة تداعب ليل القاهرة الخانق، وفى الليالى التالية استمر هذا الوضع كما لو كان ما أشار إليه عمرو نبوءة، وتذكَّرت وقتها كيف أنه فى طفولتى كان الأجداد والأعمام والأخوال يعلقون على الطقس ومنتجات الخضر والفاكهة ويربطون بينها وبين الشهور القبطية، وخوف أمى فى محنة الشيخوخة -متعها الله بالعافية- من «طوبة»، لأن البرد يؤلم كبار السن، خصوصا الذين يعانون آلاما فى العظام. لم يمر حديث المكالمة التليفونية مرورا عابرا بعد أن استعادت الذاكرة حكايات وأمثال الشهور القبطية التى تاهت وخبت، حتى إن الغالبية العظمى من أهل المدن الذين يشكلون غالبية السكان لا يعرفون شيئا عن هذه الشهور السحرية التى ابتدعها المصرى القديم منذ آلاف السنين، مؤسسًا لعلاقة دقيقة بين فصول السنة ومواسم الفيضان والزرع والحصاد، وبدأ هذا التقويم اعتبارا من 4240 قبل الميلاد عندما قسّم الفراعنة السنة إلى 12 شهرًا كل شهر 30 يومًا يليها الشهر الصغير، وهو عبارة عن 5 أيام لمدة ثلاث سنوات وفى الرابعة أو الكبيسة 6 أيام، والتقويم النجمى يتعلق بدورة نجم الشعرى اليمانى، وكل شهر يحمل اسما لأحد آلهة الفراعنة، ولم يفت المصريون كما هى عادتهم أن يصكوا مثالا يعكس حالة كل شهر من شهور السنة وهى: - توت: نسبة إلى إله الحكمة والعلوم والفنون مخترع الكتابة ومقسّم الزمن «تحوت»، وكان يحتفل به طوال الأسبوع الأول منه حتى أيام الظاهر بيبرس، الذى منع الاحتفال به لما اعتبره إساءة استخدام الحرية، المثال: «توت رى لا يفوت»، «أشهر المحاصيل.. رطب توت». - بابه: نسبة إلى «حابى» إله النيل والخضرة فى مصر القديمة، وينسب أيضا إلى الإله «بى نت رت» إله الزرع، من أمثال الشهر: «إن صح زرع بابه.. غلب القوم النهابة»، و«إن جاء بابه ادخل واقفل البوابة»، وأشهر المحاصيل: الرمان. - هاتور: نسبة إلى «حاتحور» إله الحب والجمال، من أمثال الشهر: «هاتور أبو الذهب المنثور (القمح)»، «إن فاتك زرع هاتور اصبر لما السنة تدور»، أشهر المحاصيل: الموز. - كياك: نسبة إلى الإله «كا-ها-كا» إله الخير، من أمثال الشهر: «كياك صباحك مساك تقوم من فطورك تحضر عشاك»، أشهر المنتجات: السمك. - طوبة: من أمثال الشهر «طوبة تخلى الصبية كركوبة من كثرة البرد والرطوبة»، و«طوبة أبو البرد والعنوبة (الآلام)»، أشهر ما يمتاز به ماء طوبة. - أمشير: من أمثال الشهر «أمشير أبو الزعابير»، و«أمشير أبو الطبل الكبير»، و«أمشير يقول للزرع سير بلا تعسير»، و«الصغير يحصل الكبير»، و«إن هلّ أمشير اعجن من البير»، «تبدأ المياه الجوفية فى الدفء»، و«أمشير يقول لبرمهات 10 منى خد و10 منك هات»، و«الاسم لطوبة والفعل لأمشير»، أشهر ما يميزه: خروف أمشير. - برمهات: من أمثال الشهر «برمهات روح الغيط وهات من السبع حاجات»، يتميز بالغلة. - برمودة: من أمثال الشهر «برمودة دق بالعامودة (الحصاد)»، أشهر ما يميزه: ورد برمودة. - بشنس: من أمثال الشهر «بشنس يكنس الأرض كنس» (كناية عن فترة الحصاد)، أشهر ما يميزه نبق بشنس. - بؤونة: من أمثال الشهر: «بؤونة الحجر» (إشارة إلى شدة القيظ)، و«بؤونة تكتر فيه الحرارة الملعونة»، أشهر ما يميزه عسل بؤونة. - أبيب: من أمثال الشهر «أبيب طباخ العنب والذبيب»، و«إن أكلت ملوخية فى أبيب هات لبطنك طبيب»، أهم ما يميزه: تين أبيب. - مسرى: «ميس-أو-رع» يعنى ولادة الشمس ومن معناه ابن الشمس، من أمثال الشهر: «مسرى تجرى فيها ترعة عسرة»، أهم ما يميّزه: عنب مسرى.