منذ أن بدأت الملاحة فى قناة السويس عام 1869 بعد احتفال أسطورى عاشت مصر مع هذه القناة تاريخًا من الإذعان تمت فيه عملية نهب منظم لعوائدها وإمكانياتها لدرجة من الإجحاف لا يتصورها أى عقل. حتى إن الخديو إسماعيل اشترى بقيمة مبالغ فيها للغاية أراضى فى حرم القناة كان سلفه الخديو سعيد قد منحها للشركة دون أى مقابل مادى. أما الأدهى فقد كانت الأرباح وقيمة الأسهم تقفز بمعدلات هائلة، لكن مصر كانت قد باعت حصتها منها تحت وطأة تعنت خليفة المسلمين العثمانى بفرض شروط على مصر للتصديق على حفر القناة وإسراف الخديو إسماعيل الذى ورط البلاد فى ديون كثيرة. ومما كان يؤلم المصريين أن مصر لم تكن تمتلك أى سيادة على القناة وما يحيط بها من مناطق إدارية وسكنية وحرم على ضفتيها من الأراضى. لكن فجأة وعلى غير المتوقع استيقظ ناهبو القناة والعالم كله على فعل أشبه بالأداء الأسطورى عندما أمّم الزعيم جمال عبد الناصر قناة السويس فى السادس والعشرين من يوليو 1956 بعد 87 عاما من افتتاحها لتعود إلى أحضان الوطن بعد أن رواها بالعرق مليون مصرى شاركوا فى حفرها، وبعد أن سقط صريعا 125 ألف رجل بتأثير الأوبئة وحرارة الجو وعدم توفر الاحتياجات الضرورية. من لحظة التأميم بدأ الجيل الأول من رجال القوات المسلحة المصرية علاقة أداء وطنى يتصف بالشموخ والحميمية، فالذى أمّم القناة فى قرار يتصف بالجرأة والشجاعة هو مفجّر ثورة 23 يوليو الذى حارب فى فلسطين عام 48 وأقدم على الثورة فى مخاطرة كانت ستودى بحياته فى حالة الفشل، ثم أعقب قرار التأميم أنْ هاجت القوى الاستعمارية على الرجل، وبالطبع على مصر وبدأت حملة شعواء ضد القرار السيادى الوطنى انتهت بالعدوان الثلاثى، حيث ظنت القوى الإمبراطورية الاستعمارية ممثلة فى بريطانيا وفرنسا أنها قادرة على تركيع المصريين، لكن الثبات وقوة الأعصاب أفشلا هذا العدوان الهمجى رغم فارق القوة العسكرية بين مصر وهاتين الإمبراطوريتين ومعهما ذيل عميل هو إسرائيل، كان فارقا فى القوة هائلا أصعب من أن يوصف. ولا شك فإن صمود القيادة المصرية وظهور الطبيعة الصلبة للشعب المصرى، بكل موروثه التاريخى فى المقاومة وإدارة العملية السياسية كانت عوامل مؤثرة جعلت قوى الحرية فى العالم تصطف خلف مصر وكانت بسالة رجال القوات المسلحة والمقاومة الشعبية بعد أن هب أبناء الشعب للدفاع عن أرضهم وكرامتهم وحرية القرار فى بلادهم دافعا قويا لإنهاء هذا العدوان لمصلحة الإرادة الوطنية. أما الجيل الثانى من القوات المسلحة فقد رسم على صفحة القناة ملحمة عظيمة من الأداء العسكرى غير المسبوق عندما عبر الرجال قناة السويس لتحرير الأرض فى سيناء، بعد أن احتلها الإسرائيليون لمدة زادت على ستة أعوام. كان عبور القناة مفاجأة أخرى سجل بها أبناء هذا الجيل أسطورتهم التى تخصهم مثلما فعل الجيل الأول، فقد أجمع خبراء الاستراتيجية والعلوم العسكرية فى ذلك الوقت على أن عبور قناة السويس سوف يؤدى إلى خسارة تتراوح بين 40:60 من القوات القائمة بالعبور وأن حجم القوات اللازمة لهذه المهمة للوصول إلى الضفة الشرقية يجب أن يكون كبيرًا، مما يعنى أن مصر سوف تفقد عشرات الآلاف من الجنود فى عملية العبور، لكن العقل المصرى المبدع والإرادة القوية وشجاعة الرجال أدت إلى عبور قناة السويس فى السادس من أكتوبر عام 1973 بخسائر لا تذكر. فالساتر الترابى تم تجريفه بخراطيم المياه التى جاءت فكرتها من العمل فى السد العالى الذى كان سببا فى تأميم القناة، وتسلق الساتر الترابى تم بوسيلة بدائية لم يكن أحد يتوقعها وهى سلالم الحبال التى كان يستخدمها البناؤون من القِدم، وبعدها قام الرئيس الأسبق أنور السادات بإعادة فتح قناة السويس للملاحة. أما الجيل الثالث فهو الجيل الذى حقق مفاجأة أخرى من عيار ثقيل أيضًا مثل سابقيه وإن اختلفت فى طبيعتها، لكنها اتفقت فى روعة الأداء، فقد فجر علاقة الجيل الحالى من أبناء القوات المسلحة بالقناة، الرئيس عبد الفتاح السيسى أحد أبناء جيل ما بعد أكتوبر الذى اتخذ قرارًا جريئًا بإجراء توسعة للقناة أجمع الخبراء على أنها تحتاج فى حدها الأدنى الزمنى إلى ثلاث سنوات على الأقل، وكان القرار يعنى أن الرجال الذين سوف يناط بهم تحقيق هذه المعجزة من رجال الهيئة الهندسية عليهم أن يقوموا بمعجزة حتى يتم تنفيذ التكليف الذى أمر به رئىس الجمهورية علمًا بأن عمليات الحفر بالكمية المطلوبة لتنفيذ التوسعة فى هذا التوقيت غير مسبوقة على مدى التاريخ، ويكفى أنه فى جانب آخر من هذا المشروع أنه تمت أكبر عملية تكريك فى التاريخ تطلبت اشتراك 45 كراكة تمثل 75٪ من الكراكات الموجودة فى جميع أنحاء العالم. لقد أثبت رجال الهيئة الهندسية جدارة تعكس طبيعة الأداء فى القوات المسلحة، حيث الدقة المتناهية فى تحديد التوقيتات وتنفيذ المهام فى موعدها، ولقد أظهرت البطولة فى تنفيذ هذه المهمة الشاقة التى تقارب صعوبتها حدود الخيال. جانب من المعجزة فى سلامة حسابات الموقف والقدرات المبهرة فى الجوانب التنفيذية والإشرافية ومهارات التنسيق وتنظيم التعاون هكذا على مر الزمان منذ تمت عودة القناة للسيادة المصرية اتصفت علاقة القوات المسلحة بها مع تتابع ثلاثة أجيال من الرجال الشجعان المخلصين للمصالح الوطنية بالإعجاز والأداء المتقن والجهد العارم حتى يظل هذا الشريان المائى علامة فخر وعامل ازدهار ونفاذ للإرادة المصرية وشموخ الكبرياء الوطنى.