ونحن نتتبع مسار التحرك الأمريكى فى الشهر الأخير فقط، نجد أنها تتغير، بل تتحول إلى النقيض تمامًا، بغض النظر عما إذا كان ذلك النقيض فى مصلحتك أم لا. جولة جون كيرى الأخيرة إلى مصر، ومنها إلى الدوحة، كانت محصلة للشكل الذى ستكون عليه السياسة الأمريكية فى المرحلة القادمة، فهذه الجولة سبقها جملة من التحركات المصيرية فى الشرق الأوسط، ربما أولها هذا الاتفاق الذى وقع فى منتصف يوليو مع إيران، والذى خلق جدلا واسعا فى الداخل الأمريكى، قبل أن يخلق نفس الجدل فى الخارج، حتى وقت كتابة هذا المقال. فالكونجرس الأمريكى أكثر من نصفه يرفض هذا الاتفاق، ولكنهم لم يصلوا إلى الثلثين لتعطيله، والكل فى أمريكا ينتظر التصويت المهم الذى سيجرى فى شهر سبتمبر القادم، والذى لربما يعيد الاتفاق إلى مربعه الأول على الأقل من الناحية الأمريكية. وبالتالى جون كيرى يعبر فى هذا الوقت بشكل جلىّ عن توجه أمريكى جديد، مضمونه إمساك العصا من المنتصف، وهو تحرك مراوغ، فلم تعد إيران العدو الأكبر لأمريكا، كما أن أمريكا ما عادت الشيطان الأكبر لإيران. هذا التحول فى لعبة شطرنج العداء بين البلدين لا بد أن يكون له تبعات، وكما هناك رابحون هناك خاسرون، ودائما الخاسرون يعرفون أنفسهم، لأنهم من يصل إليهم وجع الهزيمة. الخاسرون هم العرب والخليجيون تحديدًا، لأن هذا الانفتاح الأمريكى الغربى على إيران حتمًا، وحسب قانون السياسة سيستغل كورقة ضدهم، فلنفترض عادت العلاقات بشكلها الكامل بين إيران والغرب وأمريكا، وحتمًا يومًا ستعود، لا يمكن أن يضغط العرب ومعهم الخليجيون على أمريكا والغرب باسم ورقة النفط والطاقة أو حتى الغاز، لأن إيران لديها القدرة على تعويض ما يقصر فيه العرب. ثانيًا إيران شريك شرق أوسطى قوى تتمدد فى كثير من الملفات: العراق واليمن ولبنان وسوريا والبحرين وغيرها. أضف إلى ذلك أن هناك ما يقارب 150 مليار دولار أمريكى متوقع الإفراج عنها من الأموال المجمدة، ودخولها إلى الخزينة الإيرانية، فما يضمن أن جزءًا من هذه الأموال سينفق على ميليشيات إيران المنتشرة فى المنطقة، وهنا أعود إلى ما قاله السيناتور جون ماكين، رئيس لجنة الدفاع فى الكونجرس الأمريكى، الذى أكد أن هذه الأموال «ستلخبط» ميزان القوى فى المنطقة، وستستخدم فى إحداث مزيد من الإرهاب. إذن الخاسرون يشعرون بالقلق، والرابحون عليهم أن يطمئنوا الخاسرين، لذا تحرك جون كيرى أولا إلى مصر. وهنا قد يسأل البعض ما علاقة مصر بقصة الاتفاق الإيرانى النووى؟ أوعلاقتها بقصة الخاسرين والرابحين؟ مصر التى عانت من التعنت الأمريكى منذ ثورة 30 يونيو، وكان هناك موقف متصلب ضد ثورتها تمثل فى القطع الجزئى للدعم العسكرى والتسليحى، وكثير من المواقف الأخرى التى أوضحت أن أمريكا كانت قد عقدت شراكة مهمة مع الإخوان باعتبارهم شركاء دائمين. الأسبوع الماضى أمريكا تسمح بوصول المعونة العسكرية الأمريكية، بل تعطى مصر ثمانى طائرات «إف 16»، وتعلن دعمها لمصر اقتصاديا، وتهلل للرئيس السيسى وما اتخذه من خطوات اقتصادية مهمة، هى نفسها الخطوات التى تحفظت عليها سابقًا. ما الذى يحدث؟ الذى يحدث مع مصر يتشابه بقدر مع الموقف الأمريكى مع تركيا، التوافق الأمريكى التركى وصل إلى حد أن تركيا فتحت أمام الأسطول الأمريكى قاعدة «أنجيرلك» تلك القاعدة التى كادت أمريكا أن تقبل يد الأتراك عام 2003 لتستخدمها فى حربها ضد صدام حسين، ورغم ذلك رفض الأتراك. الآن هذه القاعدة فتحت أمام الأمريكان وعلى مصراعيها، الهدف كما يعلنون الحرب ضد التنظيمات الإرهابية فى المنطقة، ومنها «داعش» وغيرها. ليس هناك جديد، «داعش» موجود، وغيره موجود، ولم تظهر تلك الحماسة الأمريكية فما السبب إذن؟ علينا أن ننظر إلى جغرافيا التحرك الأمريكى فى المنطقة، سنجد أن هناك ثلاثة أضلاع تم توصيل كهرباء العلاقات إليها. أولا الضلع الأمريكى مع إيران، وقد تم عبر توقيع الاتفاق منتصف يوليو. الضلع الأمريكى التركى، وقد زاد وتعمق، لأنه لم يكن مقطوعًا. الضلع المصرى زاد وتعمق أكثر، وتم إحياء الحوار الاستراتيجى المصرى الأمريكى، الذى كان متوقفًا منذ 6 سنوات. إذن من هنا يمكن أن نستنتج الرغبة والغاية الأمريكية، وعنوانها الشرق الأوسط، لأن أضلاع ومرتكزات الشرق الأوسط هى «مصر - إيران - تركيا» بلاد تتشابه فى التاريخ والتأثير وحتى فى عدد النسمات. هذا الترتيب الشرق أوسطى الذى تخطط له إيران، والذى لا نعرف كثيرًا عن تفاصيله الآن، أرادت روسيا أن تكون جزءًا منه وحاضرة فيه، لذا رأينا وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف حاضرًا فى لقاء جون كيرى مع نظرائه الخليجيين، بل حدث لقاء ثلاثى بينه وبين كيرى ووزير الخاريجة السعودى، وهنا ظهر الملف السورى باعتباره الملف الذى يتشابك فيه الروس مع الأمريكان مع العرب ومع الأتراك. كنا جميعًا أمام رؤيتين: الأولى تقول إن الروس يريدون أن يفرضوا على العرب القبول ببشار كجزء من المرحلة الانتقالية ولو بشكل مؤقت، والبعض قال بالعكس الروس دخلوا مع الأمريكان فى صفقة نتج عنها أنهم قد تخلوا تمامًا عن بشار، ورفعوا أيديهم عنه، وبالتالى يريدون التحاور على مخارج إنهاء الصفقة ومستقبل بشار، والذى عزز هذه الرؤية كلام أردوغان الذى التقى الرئيس الروسى بوتين فى أذربيجان، ونقل عنه قوله: «إن الروس قد تخلوا عن بشار»، ونشرت الصحف التركية تصريحات أردوغان، وأردوغان ليس ذلك الزعيم الذى يقول كلامًا استهلاكيا، لأن له ثقلا مع الروس تحديدًا. فى المحصلة هل ينطلى على الخاسرين كلام «جون كيرى» المدهون بالسكر أم عليهم التريث قليلًا لربما تشرق شمس الحقيقه فيتلاشى وحده؟