افتتاح القناة هذا الأسبوع يؤكد أولًا نجاح القيادة السياسية فى إنجاز مشروع ضخم فى زمن قياسى، وثانيا قدرة الحكومة على التنفيذ، وثالثا مساندة الشعب للحاكم ومن دونها ما كان لينجح. ولا أريد أن أفسد فرحة المصريين به، لكن أخشى أن تضيع بهجته إذا لم يقرر الرئيس أن يبدأ الحرب على الفساد، كما حدث فى الحرب على الإرهاب، ويحتاج ذلك إلى عزيمة وإرادة وتصميم لا يقل عما حدث مع مشروع القناة. وأعتقد أن هذا هو التوقيت المناسب لإجراء ثورة حقيقية فى أسلوب الحكم يقودها السيسى، بتوسيع رقعة المشاركة الشعبية فى صنع القرار وتحديد أولويات المرحلة، ومحاربة الفساد والبيروقراطية والترهل الحكومى. الشعب المصرى ظل عقودًا طويلة عازفًا عن المشاركة السياسية والمجتمعية، حتى جاءت ثورة يناير لتعيد إليه ثقته فى نفسه وفى قدرته على التغيير، التى ظهرت للمرة الثانية فى 30 يونيو، لكنه اكتشف أن النظام لم يتغير، وهو حائر الآن لا يجد وسيلة مناسبة للتعبير عن نفسه وتوصيل صوته إلى الحاكم، خصوصا أن الأحزاب الموجودة على الساحة تسعى إلى السلطة أكثر مما تسعى إلى تغيير حقيقى يحقق للناس ما تصبو إليه من طموحات. ولأننا أصبحنا فى قرية كونية، فليس عيبا أن نتعلم من تجارب الآخرين، خصوصا لو كانت تتشابه مع ظروفنا، فنحن نحتاج إلى رقابة شعبية تقضى على الفساد وفى الوقت ذاته تؤهل الشعب لمشاركة سياسية ناضجة وإدراك لمفهوم العمل العام، وهو ما حققته تجربة الموازنة التشاركية التى بدأها حزب العمال البرازيلى عام 1989 فى مدينة «بورتو أليجرى»، التى انتشرت فى أكثر من 200 مدينة فى البرازيل وعشرات المدن فى أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا والهند وكندا. تقوم الفكرة ببساطة على المشاركة الشعبية فى كيفية تحديد وإنفاق الموازنة المحلية لمدنهم، التى تقرها الدولة. المواطنون فى هذه الحالة هم من يتخذون القرارات الفعلية ويتابعون تنفيذها ويحاسبون المسؤولين. تشجع الموازنة التشاركية الفئات الفقيرة على الانخراط فى العمل العام واتخاذ القرارات وتحسين واقع مجتمعهم، وإدراك الصعوبات والوصول لتحديد الأولويات طبقا للموازنة المحددة وعدم تجاوزها، هذا الأسلوب يرفع من قدرة المواطنين البسطاء على حل المشكلات والتواصل ورسم الاستراتيجيات، وهو ما يساهم فى تغيير أدائهم العام والخاص، على عكس أسلوب اتخاذ القرار من خلال المجالس النيابية. خلال اجتماعات إعداد الموازنة التشاركية يكون هناك نقاش جماعى لاختيار المشاريع ذات الأولوية للبدء بها، وتتم هذه الاجتماعات تحت رعاية الحكومة، ويتناقش فيها رئيس الحى ومعاونوه مع الأهالى ويتوصلون فى النهاية إلى نوع من الفهم المشترك للمسؤوليات والحقوق العامة يرتبط بواقعهم. وبذلك تخلق الدولة الحافز والظروف الملائمة التى تشجع الفقراء على المشاركة، عندما يحضر المشاركون الاجتماعات ويقدمون طلباتهم فإنهم يتعلمون المهارات اللازمة للقيام بعمل جماعى، ويدركون معنى التفاوض والتنازل والوصول إلى حلول وسط بطريقة ديمقراطية، وليس بالعنف أو التظاهر الفئوى أو التخريب، هذه الطريقة فى إدارة المدن تجعل أهلها يشعرون بأهميتهم وبأنهم جزء من تلك المشاريع العامة، وعليهم واجب مراقبة إنجازها والحفاظ عليها، لأنهم المستفيدون منها فى النهاية. يمكن للحكومة أن تختار محافظات محددة لتبدأ فيها تطبيق هذه التجربة فى أحياء بعينها يعرف عن أهلها وعيهم بأهمية العمل العام والمشاركة المجتمعية مثل حى المعادى. نحتاج إلى أساليب جديدة ومحتلفة لمحاربة الفساد، ويجب أن نفكر قليلًا من خارج الصندوق، فالأجهزة الرقابية لدينا فشلت فى القضاء على الفساد فى المحليات وهو أساس كل فساد. تمصير التجربة البرازيلية سيساهم فى إعلاء قيمة المواطن الفقير ورفع وعيه السياسى، وبذلك نحصّنه من محاولات تزييف إرادته بشراء صوته فى أى انتخابات برلمانية مستقبلية.