لا تفويض بلا رقابة لم أجد -حين أنهيت مراجعتى لما كتبت منذ عامين حول هذا الموضوع الهام- ما يدفعنى لتغيير قناعاتى أو ما يبرر الاعتذار عن أى موقف، رغم جاهزيتى التامة من الناحيتين النفسية والعقلية للقيام بأى تغيير تفرضه مراجعة موضوعية أو لتقديم اعتذار عن أى موقف قد يستوجب مثل ذلك الاعتذار. ولا يعكس تمسكى بما سبق أن كتبته حول هذا الموضوع عنادا أو مكابرة من أى نوع، ولا حتى محاولة ادعاء الحكمة بأثر رجعى، بقدر ما يعكس ارتياحا لثبات المعايير التى أستند إليها فى التعبير عن مواقفى المختلفة، التى تحرص دوما على ترجيح كفة المصالح العليا للوطن على كفة الأهواء الشخصية أو المصالح الفئوية والحزبية أو الانحيازات الأيديولوجية المسبقة. فقد أظهرت هذه الكتابات، وبما لا يدع مجالا لأى شك، أننى حاولت قدر جهدى أن أميز بين بعدين رئيسيين للدعوة إلى النزول للشارع. فقد كان هناك بعد سياسى، يتعلق على وجه الخصوص برؤية العالم الخارجى لما يجرى فى مصر، سعى لتأكيد تلاحم الشعب المصرى مع قواته المسلحة، حماية لثورة يونيو ودفاعا عن شرعيتها، من خلال إظهار التأييد الجماهيرى لتحرك الجيش ولخارطة الطريق الجديدة التى أعلنت، وهو ما دفعنى لتأييد الدعوة بشدة وتحفيز الجماهير للتجاوب معها. وكان هناك بعد قانونى، أو إجرائى، أراد منه البعض توظيف الحشد الجماهيرى ذريعة للتسلح بأدوات جديدة للقمع بهدف استئصال الآخر المختلف حتى ولو لم تكن لهذا الآخر علاقة بأى إرهاب فعلى أو محتمل، وهو ما أثار قلقى ومخاوفى وعبرت عن عواقبه الخطيرة المحتملة. وفى تقديرى فإن الأحداث التى عصفت بمصر على مدى العامين الماضيين، منذ الدعوة لهذا التفويض، أكدت مشروعية هذه المخاوف. فالإرهاب الذى كان «محتملا» أصبح أمرا واقعا، والتفويض الذى حصل عليه السيسى، الذى أصبح الآن رئيسا لجمهورية مصر العربية وليس مجرد وزير للدفاع وقائدا عاما لجيشها، لم يكن له تأثير يذكر على الأوضاع الميدانية ولم يلعب أى دور فاعل فى مكافحة أو احتواء الإرهاب الذى راح يتصاعد ويزداد حدة وشراسة بمرور الوقت إلى أن يصبح يهدد الوطن بأسره. وأظن أن الأمانة تفرض علينا أن نؤكد مرة أخرى أن التفويض الذى منحه شعب مصر لقائد جيشه فى ذلك الوقت بالتصدى للإرهاب المحتمل، لم يكن تفويضا بقتل أبرياء أو الزج بالخصوم السياسيين فى السجون والمعتقلات، ولم يكن تفويضا بممارسة الغباء السياسى والعمل على إعادة تجريف الحياة السياسية مرة أخرى، ولم يكن إعلانا باعتزال الشعب للسياسة وتخليه عن حقوقه الأساسية، وفى مقدمتها حقه فى المشاركة السياسية المستمرة من خلال الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى، وحقه فى ممارسة الرقابة الدائمة والمستمرة على أداء السلطة التنفيذية، سواء من خلال ممثليه فى البرلمان أو من خلال ممارسة كل مواطن حقه فى إبداء الرأى عبر كل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة. لقد أكدت مراجعتى لكتاباتى السابقة حول هذا الموضوع، وبما لا يدع أى مجال للشك، أن مصر ما تزال تعيش حالة استقطاب لا مجال فيه لأى تفكير مستقل، ومن هنا تأتى خطورته الشديدة. فإما الانحياز التام وغير المشروط للسيسى والقوى المتحالفة معه، وإلا فالاتهام جاهز بالخيانة وبانعدام الوطنية وبالعمالة للخارج، وإما الانحياز لجماعة الإخوان والقوى المتحالفة معها، وإلا فالاتهام جاهز بالكفر والإلحاد والعمل لهدم الإسلام والمسلمين. إذا استمر الوضع على ما هو عليه فهناك كارثة تنتظر الجميع. لذا مطلوب من كل مواطن حر وشريف تهيئة مناخ أفضل لحوار حقيقى تطرح فيه كل الآراء، وتحدد القواعد والخيارات المتعلقة بالسياسات العامة استنادا إلى معايير المصلحة الوطنية العليا وحدها، وهى واضحة وحارقة كشمس الظهيرة فى عز الصيف.