لم يحظ قائد أو زعيم أو رئيس أو ملك عربى، مثلما حظى جمال عبد الناصر من تعظيم وتبجيل، كتب فيه الشعراء والروائيون وكتاب المسرح، كتابات لا يستطيع جهد فردى حصرها، رغم أن الشاعر الراحل حسن توفيق، فعل بعض ذلك، وبذل مجهودات كثيرة من أجل جمع بعض من الأشعار التى كتبها الشعراء فى رحيل الزعيم. وبالتأكيد فإن هذا الجهد الذى قام به حسن توفيق، جهد محمود، لأنه قام به دون تكليف من مؤسسة رسمية أو غير رسمية، وعندما أنجزه راح ينشره على نفقته الخاصة فى دار نشر خاصة فى لبنان، وكنت أعرف أنه هو الذى دفع نفقات النشر والإصدار، رغم أن هذه المهمة لا بد أن تبادر بها وزارة الثقافة المصرية، التى لا تولى مثل هذه المهمات أى اعتناء، لذلك فالمبادرات الشخصية، تعتبر خطوة على الطريق، رغم الصعوبات، وعدم الكفاءة الكبرى لأى منتج يقوم على جهود خاصة. ومرت مسيرة جمال عبد الناصر بمراحل عديدة منذ انطلاق ثورة يوليو، ثم قانون الإصلاح الزراعى، ثم جلاء الإنجليز، ومؤتمر باندونج، وتأميم القناة، والعدوان الثلاثى، وقوانين يوليو الاشتراكية والسد العالى، والوحدة المصرية السورية، وغيرها من أحداث قومية ووطنية، رأى الكثيرون أنها إنجازات وتحولات عظمى فى المجتمع. الشعراء لا تهمهم التحليلات السياسية الكثيرة والمختلفة، ولكنهم يتعاملون مع الأحداث بأشكال مجازية طوال الوقت، فها هو أحمد عبد المعطى حجازى يكتب قصيدة عنوانها «عبد الناصر»: (فلتكتبوا يا شعراء أننى هنا أمر تحت قوس نصر مع الجماهير التى تعانق السنى تشد شعر الشمس، تلمس السماء كأنها أسراب طير تفتحت أمامها نوافذ الضياء .... فلتكتبوا يا شعراء أننى هنا أزاحم الجموع أخوض بحرا أسمر المياه أخوض بحرا من جباه بحر الحياة -ما أشد عمقه- بحر الحياة طوفانه يا شعراء سيد مهيب يمضى فتنحنى السدود ويفتح الضياء ألف كوة عليه ويطلق البوق النحاسى النشيد). ويستطرد حجازى فى إرسال مجازاته التى تنطلق من حب وتقدير وتبجيل وتأييد شبه مطلق، وكُتبت هذه القصيدة عام 1956، فى الوقت الذى كانت مصر فيه تحقق قدرا كبيرا من أشكال التحدى، هذا التحدى الذى وضع جمال عبد الناصر فى مقدمة زعماء العالم، وكذلك جعله هدفا للمؤامرات والمكائد السياسية، لذلك كان الشعراء يؤازرون الزعيم بكل ما يملكون من حس بلاغى ومجازى وصورى. وكان الشعراء يتغاضون عن بضع مشكلات تمر بها البلاد، على المستوى الديمقراطى والاقتصادى، فيدفعون دوما فى اتجاه مدح الزعيم لدرجات تصل إلى درجات عليا، فالقصيدة ليست مقالا سياسيا، ولا تحليلا فكرية، وليست تأملات فلسفية، ولكنها دفقة شعورية، تتعامل مع الحدث من طرف واحد لا غير. لذلك يكتب الشاعر سلامة العباسى، وهو شاعر له إنجازات عديدة على المستوى الشعرى والمسرحى، وهو الذى حوّل الرواية التى كتب مقدمتها جمال عبد الناصر، عندما كان فى المرحلة الثانوية، إلى مسرحية، وكتبت الملكة دينا عبد الحميد مقدمة نقدية حماسية، ويكتب العباسى قصيدة عنوانها «الوجه الثائر» فى جريدة المساء بتاريخ 2 أغسطس عام 1959، وشهد هذا العام نكسة مروعة على المستوى الديمقراطى، إذ سيق آلاف من المناضلين والكتّاب والصحفيين إلى معتقلات مصر جميعا، وتم تعذيبهم بشكل مروع، لدرجة القتل، وبالفعل استشهد عدد من المعتقلين، وعلى رأسهم شهدى عطية الشافعى ومحمد عثمان ولويس إسحاق وغيرهم. يكتب العباسى قائلًا: (عيناك ترسلان ومضة العصور بالبعث، بالحياة، بالنشور بالشاهقين كالجبال، الرابضين كالصخور فقمة الزمن للفجر يرقبون). والقصيدة مطرزة بكثير من المعانى والمجاز والبلاغة. ولم يقتصر الأمر على شعراء مصريين فقط، ولكنه تخطى ذلك بكثير، إذ إن جمال عبد الناصر كان زعيما عربيا بامتياز، وصوته كان يصل إلى كل الأقطار العربية، وخلق تيارا عروبيا يعتنق المبادئ الناصرية، فكتب شعراء مثل السودانى محمد الفيتورى، والعراقى عبد الوهاب البياتى، وغيرهما. وإذا كان هناك شعراء كتبوا شعرا وملاحم ومسرحا فى حياة ناصر، فهناك شعراء أضعاف هؤلاء كتبوا بعد رحيله، حتى هؤلاء الذين احتجوا من قبل، وكتبوا هجائيات مثل السورى نزار قبانى الذى كتب مرثية يقول فيها: (قتلناك يا آخر الأنبياء قتلناك.. ليس جديدا علينا اغتيال الصحابة والأولياء فكم من رسول قتلنا.. وكم من إمام ذبحناه وهو يصلى صلاة العشاء.. فتاريخنا كله محنة.. وأيامنا كلها كربلاء..). وكتب الشاعر العراقى العظيم محمد مهدى الجواهرى: (أكبرت يومك أن يكون رثاء الخالدون عهدتهم أحياء أو يرزقون؟ وهذا رزقهم صنو الخلود وجاهة وثراء قالوا الحياة فقلت دين يقتضى والموت قيل فقلت كان وفاء). وكتب شاعر المقاومة الفلسطينية محمود درويش: (نعيش معك/نسير معك نجوع معك نحاول ألا ننموت معك ولكن، لماذا تموت بعيدا عن الماء والنيل ملء يديك؟ والبرق فى شفتيك وأنت وعدت القبائل برحلة صيف من الجاهلية وأنت وعدت السلاسل بنار الزنود القوية..) وهكذا صدح معظم شعراء العرب، والمصريين، والذين كانوا يختلفون معه، ذرفوا دموعا كثيرة، هذه الدموع التى ما زالت تهطل حتى الآن حسرة وافتقادا وحبا وتقديرا وحنينا لأيام عروبية ووطنية، حتى لو افتقدت بعضا من الديمقراطية.