لعن الله السياسة وأجواءها الخانقة المتناقضة، فهى تنهب الوقت والعقل أكثر مما ينبغى، وتحرم المجتمع من الاهتمام بشؤون أخرى قد تكون أكثر فائدة، ولعلّ المتضرر الأكبر من سطو السياسة على الناس ووجدانهم هو الجانب الثقافى الإبداعى، إذ تراجَع إلى مستوى مخيف، فها هى الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل مبدع بوزن يوسف إدريس، تحلّ أمس فى الأول من أغسطس، دون أدنى ذِكر لرجل ترك لنا وجبة دسمة من الإبداعات المتنوِّعة، وإذا كان كثير من النقاد يصفونه بأنه «تشيكوف العرب» أو الأب الحديث لفن القصة القصيرة، فليس معنى ذلك أن نصوصه الروائية والمسرحية ليست ذات شأن، إذ يحتلّ عديد من هذه النصوص مكانة مرموقة فى كتاب الأدب العربى فى القرن العشرين. سأتوقَّف هنا عند علاقة يوسف إدريس «19/ 5/ 1927 - 1/ 8/ 1991» بالسينما تحديدا، وهى علاقة مهمة لم يلتفت إليها المتخصصون إلا فى ما ندر، لكن قبل الخوض فى غمار تلك العلاقة علينا تأكيد أمر بالغ الأهمية، وهو أن إدريس يعدّ ابنا بارا لثورة 1919 ومنجزاتها المدهشة اجتماعيا وفكريا وإبداعيا، والسينما إحدى أهم المنجزات العظيمة لهذه الثورة، وقد حققت قفزات مدهشة فى فترة صبا وشباب يوسف، الأمر الذى جعله مفتونا بها لا ريب ككل أبناء جيله الذين تفتّح وعيهم على أم كلثوم وعبد الوهاب ونجيب الريحانى ويوسف وهبى وأنور وجدى وليلى مراد، وعشرات من النجوم الكبار الذين أضاؤوا سماوات حياتنا فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى. لذا لا عجب ولا غرابة أن ينشغل يوسف بالسينما، ويكتب القصة والحوار لواحد من أجمل أفلامنا السينمائية، وهو «لا وقت للحب- 1963» الذى أنجزه صلاح أبو سيف، ولعبت بطولته فاتن حمامة ورشدى أباظة، والفيلم كما تعرف يشتعل بالحس الوطنى، ويبجل حفاوة المصريين وبطولاتهم فى مواجهة الاحتلال الإنجليزى. «الحرام» هى الرواية الأولى ليوسف إدريس التى انتبهت إلى عبقريتها السينما، وحوَّلتها إلى فيلم يضج بالإنسانية والشجن، وقد عرض الفيلم الذى حققه بركات سنة 1965، وتصدى للأدوار الرئيسية كل من فاتن حمامة وعبد الله غيث وزكى رستم، والفيلم يعدّ إدانة صارخة للظلم الاجتماعى الحاد الذى أنهك ملايين المصريين وأضناهم فى العهد الملكى، لكن فى هذه المرة تولى سعد الدين وهبة كتابة السيناريو والحوار لهذا الفيلم. لم يسلُ يوسف إدريس غرامه بالسينما، فكتب بنفسه السيناريو والحوار لقصته «حادثة شرف- 1971» التى أخرجها شفيق شامية، وبطولة زبيدة ثروت وشكرى سرحان، ثم قدمت له السينما فيلم «قاع المدينة- 1974» لحسام الدين مصطفى، و«على ورق سويلفان- 1975» لحسين كمال، ولم يكتب السيناريو والحوار لأى منهما. أجل، كان لإدريس حضور قوى فى عالم السينما، لكن السياسة وسنينها أنستنا إيّاه! سامحنا يا دكتور يوسف.