فى حوار مع صديقى العزيز الدكتور نصار عبد الله، تطرقنا إلى فكرة «القوة والحق»، باعتبارها واحدة من الثنائيات الكبرى التى شطرت العالم منذ أن استخدم قابيل «عظمة حمار ميت» ليشج بها رأس أخيه، لا ليقتله بالأساس، ولكن ليحصل لنفسه على ما يتصور أنه «الحق». يبدو مصطلح «المشروعية» فى هذه الحالة «لقيطًا» يتبناه الطرف الذى ينتزع الحق ويستطيع الدفاع عنه. ربما يستهجن أحدكم كلمة «لقيطًا»، وقد يكون عاقلًا فيسأل: إذا كانت المشروعية لقيطة، فهذا يعنى أنها ليست ابنة أصيلة ل«القوة»، وبالتالى فإن السؤال الذى يجب أن نبحث له عن إجابة هو: ابنة مَن تلك المشروعية المتبناة؟ قال الدكتور نصار ضاحكا إن الأسد منح نفسه «حق» أكل الغزال لمجرد امتلاكه قوة فرض ذلك. الإنسان كذلك يتمتم باسم الرب وهو يذبح مَن يرى مِن «حقه» أن يذبحهم (العبارة الأخيرة من عندى حتى لا يتحمل الدكتور نصار ثمنها فى دولة تكافئ الفقراء برفع تسعيرة الكهرباء). قد يبدو الكلام ثقيلا، وقريبًا من أجواء الفلسفة، بعيدًا عن اهتمامات ولغة الجمهور، و«الحق» أننى أتعمد ذلك، فهذه بضاعتى، ولا أستطيع أن أنافس الجمهور الجديد فى بضاعته، فالولد الصغير الآن، يجابه العلماء، ويهاجم زويل وصلاح عبد الصبور بنفس الحدة التى يهاجم بها ابن تيمية وأوباما ومحلب، والستات اللى نزلوا البحر بالحجاب! لذلك أخجل من كتابة ما تعرفونه أكثر منى، وأشعر فى أحيانٍ كثيرة أن المواقف الراديكالية التى دفعت ثمنها طوال عمرى، صارت «مواقف مايعة» أمام زئير الأسود فى غابة «فيسبوك»، وصيحات فرسان كتيبة الثوريين الجدد، ربما لهذا أفضل الاحتماء بالهدوء والمناقشة العاقلة المتعمقة للظواهر التى نعيشها، لن أتجاوب معكم فى لعبة التزحلق على سطح العالم، ولن أكتفى بتداول الأخبار والتعليق على الأحداث العابرة، فثمة عوامل قديمة وامتدادات رهيبة وراء وأمام كل خبر صغير نعلق عليه بالقدح أو المدح. فى الفترة الأخيرة كنت أسأل الأستاذ هيكل بما يشبه التحريض: أما آن الأوان يا أستاذ لانصرافك من «الأخبار» إلى «الفلسفة».. أما آن لنا أن ننتظر الفيلسوف بدلا من «الجورنالجى»؟ فى لقائنا الأخير، اقترب هيكل خطوة كبيرة من هذا الهدف، لكنه رفض بعناد التخلى عن منصب «الجورنالجى»، رغم انتقاده العنيف لحال الصحف والصحفيين فى مصر، وعاد هيكل ليتفق معى فى أن «الخبر» الذى تهتم به الصحف فى هذه الأيام مجرد شذرة من بقايا تفجير تناثرت أشلاؤه، أو عضو مبتور من جسد حى، وليس العضو فى حالته وعلاقته الطبيعية مع الجسد الحى. أعتذر عن هذه التشبيهات المقززة، لكنها أكثر رقة وتأدبًا من جريمة تفجير السياق، ومن تدمير بنية الفكر، ومن تمزيق نسيج المجتمعات الإنسانية التى تشكلت الحضارات القديمة على أساسها. كنت قد دعوت فى مقال قديم فى «التحرير» إلى ضرورة بناء عقل مصرى نقدى، يهتم بالتأسيس والبناء بعد أن تمادينا كثيرًا فى مرحلة الهدم، وإضافة كلمة «نقدى» هى الضمانة لعدم تسليم المستقبل لكهنة الماضى، وحراس السكون، وحزب الباكين على الأطلال، كما أنها تضمن عدم الانجرار إلى «النقض» تحت مسمى النقد، فليس كل من يحمل معولا مهندسًا، وليس كل من يحمل مشرطًا جراحًا، فمن دون العلم والوعى قد تخدعنا «صور الفيس» ونتصور أن كل من ينقد بطل وثورى، وهذه أخطر ظاهرة تهدر «الحق» وتهدد العقل فى المرحلة التى نعيشها.