رحل عن عالمنا مفكرنا الكبير جمال البنا، يوم الأربعاء 30/1/2013، وفى نفس اليوم كان له مقال منشور تحت عنوان «إسلام الإنسان 1-3»، وهكذا ظل الرجل يبحث ويكتب وينشر بداية من عام 1945 وحتى آخر يوم، ومن ثَم قدَّم إلى المكتبة العربية أكثر من مئة وخمسين كتابًا. وقد تعرّفت على مفكرنا الراحل منذ سنوات عدة، فوجدته رجلًا نبيلًا يعيش أفكاره بصدق وإخلاص وشجاعة، وقد تشرَّفت بما كتبه عن روايتى «حكيم»، وقبلها بسنوات كتبت عنه مقالًا نُشر فى «الدستور الأصلى» بعنوان «جمال البنا وحق الخطأ». جاء فيه «تعرّض الكاتب الإسلامى الكبير جمال البنا لهجوم عنيف بسبب بعض اجتهاداته الفقهية، مثل قوله إن حجاب المرأة ليس فرضًا، أو رأيه فى السماح لمدمن السجائر أن يشربها فى نهار رمضان حتى لا يمتنع عن الصيام نهائيًّا، أو غيرهما من الاجتهادات الصادمة للرأى العام البعيد عن اختلافات المذاهب الفقهية، فعامة المسلمين لا تعرف كيفية استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، ولا تدرك حدود الاجتهاد فى الفكر الإسلامى المبنى على تحقيق مصالح الناس، فأينما وجدت المصلحة فثم شرع الله». وبغض النظر عن صحة أو خطأ اجتهادات الأستاذ البنا، ما كان يجب أن نتعامل مع اجتهادات فقهية لباحث كبير بهذا القدر العجيب من الضيق والقسوة والتعصب. هذا فى حين أن ديننا الحنيف يدعونا إلى إعمال الفكر والبحث والاجتهاد، ورسولنا الكريم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» (البخارى)، ومن ثَم للمجتهد أجر فى كل حال، وهذا المنهج الإسلامى كان يجب أن يقودنا نحو تجديد الفكر الدينى عبر العصور. فثمة حق إنسانى أقرّه الإسلام بوضوح وهو حق الخطأ، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ومن ثَم لا يجب أن يمنعنا احتمال الوقوع فى الخطأ عن مواصلة الاجتهاد طبقًا لأصول ديننا العظيم.. ولعل بقاء مجتمعنا مقهورًا تحت حكم ديكتاتورى كل هذه العقود المتتابعة، أبعدنا عن فكرة التعددية السياسية، وعن معنى الحرية الفكرية، كما فصلنا عن روح التسامح عند الاختلاف الفكرى أو المذهبى، بينما فى تاريخنا الإسلامى ظهرت فرق إسلامية متباينة ومذاهب فقهية مختلفة، لأن ديننا رحب وسمح ومتين، ويسمح بالاجتهاد والاختلاف. ونتذكر هنا موقفًا للإمام مالك مع أمير المؤمنين هارون الرشيد، الذى سمع من الإمام كتابه «الموطأ» فأُعجب به ورغب أن يعلّقه فى الكعبة، ويحمل الناس على العمل بما جاء به، فرفض الإمام مالك، وقال له: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اختلفوا فى الفروع وتفرقوا فى البلاد، وكل مصيب. رحم الله أستاذنا الجليل جمال البنا، وأثابه على دراساته وبحوثه واجتهاداته الكثيرة، وسعيه «نحو فقه جديد»، ودعوته الفكرية للإحياء الإسلامى.