أنْ يستوقفك شخص ما ليسألك فى السياسة كان أمرا مرهِقًا من قبل، إلى أن اكتشفت السر، فالسائل بحاجة إلى أن يتكلم هو شخصيا أكثر من حاجته إلى أن يستمع إلى إجابتك، وفى نفس الوقت يريد أن يطمئن إذا كنت تشاركه الرأى نفسه، تلك هى حدود طموحاته من السؤال، ولا شىء غير ذلك، فالكلام والنظريات تملأ كل مكان، وكيلو الكلام أصبح بكيلو تراب، هو يريد منك -بما أنك تظهر على شاشات التليفزيون- أن تستمع إليه وتصحح له الواجب، لذلك أصبحت كلما سألنى شخص «ما رأيك فى كذا؟» أرد عليه بسؤال أيضا «طب أنت رأيك إيه؟»، كنت فى البداية ألعب هذه اللعبة حتى «أشترى دماغى»، الآن صارت اللعبة ممتعة فعلا وأصبحت وجهات نظر السائلين هى «ميزان المياه» الذى يعتمد عليه الواحد فى الإمساك بطرف ثوب الاعتدال، بل أصبح السائلون هم «اللى بيصححوا لى الواجب»، أضف إلى ذلك سعادة ما تبرق فى عيون السائل، إذ يطرح وجهة نظره وتحليلاته على شخص شبه معروف يستطيع أن يجيد تثمينها، حيث إن هذا الشخص شبه المعروف يبدو أقل غباءً من جار السائل أو زميله فى العمل «رب اغفر لى ما لا يعلمون». خلال اليومين الماضيين فسدت اللعبة على أثر سؤال «توقعاتك إيه ليوم 25 اللى جاى؟»، «توقعاتك أنت إيه؟»، فيصمت بصدق. كنت أعتقد أن لعبة التوقعات لا تصلح مع الشعب المصرى، اليوم صرت متأكدا. صحيح أن الشعب المصرى أبهر العالم، لكن «الإبهار» هو أحد وجهَى العملة، الوجه الآخر هو (الإحباط)، بل إن عبقرية الشعب المصرى تتجلى عندما يقوم بتفعيل (الاتنين أوبشن) معا، فيبهرك عن طريق أن يقوم بإحباطك. مثلا لم نتوقع أن يحكم مصر محمد مرسى (ولا هوّ نفسه شخصيا كان يتوقع). لم يتوقع أحد أن يكون ثلاثاء التظاهر ضد الإخوان فى التحرير بهذة الكثافة، وبعدها بأسبوع لم يتوقع أحد أن تترجم هذه الكثافة فى الصناديق لصالح الإخوان. لم يتوقع أحد أن يتعاطف الناس مع خطاب «سأموت فى بلدى» بنفس القدر الذى تعاطفوا به فى اليوم التالى مع دموع وائل غنيم عقب الإفراج عنه. لم يتوقع أحد أن الثورة لم تغير النظرة إلى رئيس الجمهورية ف«ادّوله فرصة واعتبره زى ابوك... إلخ». من الصعب أن تتوقع المصريين، حتى لو استخددمت عِلم (الرسوم المتحركة) فسيفاجئونك بأمور تتجاوز الكارتون، من الممكن أن ينجح يوم 25 يناير القادم ويسقط الإخوان ويُهيأ لك أن الأمور استقرت فى يد جبهة الإنقاذ، وساعتها قد تفاجأ أن المصريين يساعدون (حازمون) على ركوب الثورة ثم ينتخب الشعب حازم أبو أسماعيل رئيسا (وادّوله فرصة)، وجملة (ادّوله فرصة) هى دائما مفتاح الثورة الجديدة، فتقوم واحدة أخرى بعد قليل يعقبها انتخابات رئاسية يفوز بها «كمال الجنزورى». قد نتحول خلال عشر سنوات إلى علامات تعجب تمشى على ساق واحدة، فالغلابة الذين قامت الثورة من أجلهم يبدون كأنهم يعاقبونك على ما فعلته، الغلابة مثل الكبار يستخدمون الثورة أحيانا كورقة ضغط فى أمور ضيقة، ثم يضعونها فى الفريزر إذا ما كانت هناك حاجة إليها فى أمور ضخمة ومصيرية، ثم يذبحونها إكلينكيا ببطء، ثم يثورون عندما تفقد الأمل تماما. توقعات إيه يا عم الحج؟ الشعب لديه قدرة هائلة على الفرز والتمييز، وبالقوة نفسها يكذب الكذبة ويصدقها، يخلق من ظهر الكنبة ثوارا، ومن ظهر الثوار فلولا، يطالبك باحترام المشير ثم يقول عن عزله «ضربة معلم»، ظالم يشكو من الظلم، وعشوائى يكره الفوضى، ومتدين بطبعه أول شرارة غضبه سب الدين، مسالم بطبعه يركن صفًّا ثانيا و«يشد التعشيقة»، يطاطى للريح لكن ممكن يفاجئك وهو «مطاطى» بأن يقول للأعور أنت أعور فى عينه، خدوم بإخلاص حقيقى قد «يلبّسك فى حيطة»، شعاره «الشهادة لله» لكن للصاحب الجدع عند صاحبه ثلاثة أشياء على رأسها «الشهادة الزور»، المتأمل على جوّه و«المتلأمن» على برّه، حمادة سلطان وعصام سلطان فى اللحظة نفسها، الحاضر الغائب، والغائب على طريقة «أغيب أغيب واسأل عليه». لم يقلها عبد الناصر من فراغ «الشعب هو المعلم»، فكل مواطن مصرى «معلم فى نفسه»، وسر فخره بنفسه أن «صوته من دماغه» وأكثر ما يسعده أن تُفاجأ بهذا الصوت، إذا توقعته فأنت تجعله أمام نفسه شخصا عاديا وليس «معلما»، وهنا تكمن الإهانة، وما عاش اللى يهين المصريين أو يتوقعهم.