1- من يوميات منطقة عشوائية كتب-علاءخالد: منطقة «المأوى»، إحدى المناطق العشوائية فى الإسكندرية، تقع فى غرب المدينة فى حى القبارى. بدأت سيرتها منذ عام 1960باسم «مأوى الصيادين». الصيادون القادمون من الصعيد وبحرى كانوا يعيشون على حافة بحيرة مريوط، قبل أن يُردم هذا الجزء منها ويدخلوا فى طابور الواقفين على باب الله. بعدها تكاثرت الغرف الصغيرة على هذا الجزء المردوم، وتضخم «المأوى» مع تكاثر الفقر وتفاقم أزمة السكن. شارع ضيق للغاية يمتد بطول المنطقة، تتفرع منه شوارع جانبية متعامدة عليه. وصف أحد السكان ضيق هذا الشارع، بأن عربة الإسعاف أو المطافئ لايمكنها أن تمر. فهذا «المأوى»، فى مخيلة ساكنيه، محاصر بتوقع الموت أو المرض أو الحريق. وأضاف أن الميت يحملونه على أكتافهم حتى يخرجوا به إلى الطريق الدولى، الذى يتماس مع المنطقة، ومن هناك يبدأ رحلته المريحة داخل عربة تكريم الإنسان. ذهبنا وتحدثنا مع الأهالى، كلما سألت أحدهم عن وظيفته قال «على باب الله»، وهى الوظيفة الغالبة هنا. فى البداية قابلت فتحى عباس(56 سنة). كان جالسا يتشمس أمام المدخل الرئيسى على الرصيف فى هذا الصباح الشتوى. «جيت من كفر الشيخ من 35 سنة، من أيام ما كانت مشاعل، ما كانش فيه كهربا، كانوا بيولعوها بالُلنض الإزاز. كانت كلها هواجر، أراضٍ مهجورة، وبعدين اللى بيقدره عليه ربنا. ده بيساعد ده يبنى حتة أوضة يستر فيها عياله. أنا اللى بنيت بيتى بإيدى وبإيد غيرى. إتجوزت واحدة من الأرياف وأنا عندى 19 سنة. عندى بالصلاة على النبى خمس بنات متجوزين. باشتغل على باب الله أرزقى. اشتغلت تبّاع على عربيات النقل الكبيرة واشتغلت فى الزبالة واشتغلت فلاح واشتغلت صياد. ممكن أروح أشيل شوية التراب طول اليوم عشان آكل منهم آخر النهار. اتربيت وسط أغراب. إحنا هنا كلنا أغراب. تلت تربع إسكندرية أرياف وصعايدة. الناس جت هنا عشان لقمة عيشها. عمرى ما مديت إيدى للغلط. الحرام لأ. الحرام فى كل حتة حوالينا هنا فى المأوى. أحمد مصطفى (26 سنة) أنا شغّال فى ورشة كاوتش. الحكومة ما كانتش تيجى هنا إلا عشان تاخد واحد من البيت تلبِّسه قضية سكينة وبرشام. هنا فيه مرشدين متسلطين على الناس بيسرقوا فيقوموا يظلموا ناس تانية. ده كان قبل الثورة، وبعد الثورة زادت. فيه عيلات كبيرة هنا معاها سلاح مسدسات ورشاشات، يقولك إحنا عزوة، وأى عزوة لازم يكون عندها سلاح عشان ما حدش يقف لها. أغلب الناس هنا صنايعية، وفيهم اللى على باب الله وكده. بتضايقنى كلمة «عشوائية» لما حد بيقولها على المكان. إحنا عايشين ما نعرفش مكان تانى غير هنا. عايشين برّه الدنيا، زى حياة بدائية، مالناش دعوة بإسكندرية. وليد السيد (أبو ميار) (35 سنة). «فيه بيوت هنا سقفها خشب والعيال الصغيرة بتبقى نايمة والمية بتنزل عليهم. ما فيش هنا لا مدرسة ولا مستشفى ولا حضانة، حتى المستوصف الوحيد بتاع الناس الغلابة الكشف بجنيه واللى عليه رجل هدُّوه، ونقلوه حتة بعيدة. اللى بيعيا هنا معاه ربنا. معظم الشغل هنا ورش تصليح كاوتش، كله شغال على دراعاته. إحنا متربيين مع بعض، غصب عننا بنحبوا بعض، وبنشيلوا بعض، ولو تبص تلاقى عملية نسب ما بينا. كل العيلات واخدة من بعضيها. كل الناس هنا مستوى واحد، ما فيش واحدة تتقدم لها وتقول لك إنت مش من مستوايا. أنا شقتى نضيفة مش هاقول لك لأ، قيشانى وسيراميك ومطبخ، وشغّال فى شركة كابو، وفاتح عربية شاى وشندوتشات، كل ده عشان أأكل عيالى. أنا مستريح هنا على قد فلوسى. نفسى أروح مكان أحسن من كده عشان خاطر عيالى مش أكتر. أيام الانتخابات تيجى ناس ياخدوا البطايق ويدوهم ميت جِنى وميتين جنى، عشان ينتخبوهم، وأول ما ينجحوا ما يعرفوش حد. آخر مرة حصلت قبل الثورة. بعد الثورة إحنا نجَّحنا الإخوان، قلنا عشان يصلّحوا من حالنا، طلعوا مش كويسين. فيه ناس هنا مش لاقية لقمة العيش، مش بتطلع من بيوتها من الفقر». الشيخ محمد عرفة فى أثناء حديثى مع وليد جاء ذكر الشيخ السلفى محمد عرفة الذى يذكره الجميع بالخير وباللسان الحلو. كان وسيطا لأهل الخير، يدفع شهريات للناس، ويقيم مائدة رحمان. وكان يأتى بالعيش من فرن قريب ليوفره لأهالى المنطقة المحرومين منه. اعترضت إحدى السيدات البطلجيات والمشهورة ب«عايدة الحرامية»، التى تشبه الأختين ريا وسكينة؛ ربما لمنافسته لها فى التأثير على الناس. سلطت عليه ولديها محمد، مسجل أمن عام سرقات بالإكراه وسلاح ومخدرات، ومعتز وشهرته « كراكيبو» صادر ضده 16 حكما، وبعض الأتباع. قتلوه فى نهار رمضان الفائت أمام باب المسجد، وبينما كان يدافع عن نفسه طعنه أحدهم وقتله. بعدها قاموا بالتمثيل بجثته. يحكى أن عايدة الحرامية، التى تجاوزت السبعين، رقصت بخفة أمام الجثة. قصة سالومى تُعاد بإخراج دنيوى. لفت نظرى شعر قبارى (أحد شباب الحى - 22 سنة) الطويل والبراق والذى يصففه على الموضة، هذا الشعر هو الذى يربطه بعالم آخر بعيد يود أن يكون واحدا منه. «أنا لسه مخلص جيش. باشتغل على مغسلة عربيات. العربية بعشرة جِنى. نِفسى الدنيا تتظبط وأتجوز، ما فيش فلوس، ما فيش شقة. أنا متربى هنا. نفسى أطلع بره أشوف ناس جديدة، أعيش فى شقة نضيفة من غير مجارى ولا قرف». سار معنا قبارى ليفتح لنا الأبواب المغلقة. يدفعك الأهالى إلى أن تتوغل أكثر فى الشارع الضيق وفى المنطقة، لترى مستويات أقسى من الفقر. المسافة الصغيرة بين البيوت القريبة من الشارع الرئيسى والداخل صنعت فوارق، ربما ليست طبقية، ولكن نفسية. القريبون من الشارع الرئيسى يشعرون بأنهم هناك فى الداخل يتألمون أكثر منهم. ما زلت طافيا على سطح الحياة، بينما الأخرون غرقى. سمعت صوت صراخ واستغاثة من إحدى الغرف وهناك من يدعونى للدخول «أنا مش عايزة حاجة من الدنيا.. أنا مش عايزة حاجة من الدنيا.. أنا بس عايزة العلاج ده»، ورفعت السيدة فتحية فراج (85 سنة) الراقدة على سرير فى غرفة ضيقة، مساحة بيتها، وسط أكوام من الملابس؛ كيسا مليئا بالأدوية راقدا بجانبها. «فيه دم بينزل من حَنكى، ياريت تعملولى عملية وتريحونى. فيه واحد ابن حلال ودّانى مستشفى «البلشى» عشان عملية المرارة، ودفع لى 9 تلاف جنيه، وبعد كده سابنى. دلوقتى عندى تسع حصوات على الكلى. رحت المستشفى، عايزين عشر تلاف وأنا ما معاييش، أجيب منين؟ بنتى هى اللى بتخدمنى، واقفة على بنيكة السجاير، بتبيع لى وتأكلنى، ولما لقت الفيران طالعة علىّ نقلت الدولاب. الفار عضِّنى إمبارح، العضة أهه فى كتفى (عرّت كتفها كى أرى العضة). زمان كنت بامشى وباجرى قبل العيال، كنت باسرح بمناديل فى الموقف، والناس تدينى وما تخدش منى مناديل. أقل يوم تلتميت ربعميت جِنى. جيت هنا من عشرين سنة. قبل كده كنت ساكنة فى كرموز، أمى لما ماتت سِبت البيت لأختى. الناس هنا حلوين، كلنا بنحبو بعض. حلقولى شعرى أول إمبارح عشان يكهربونى، عندى أعصاب (عرّت رأسها الحليق وبحثت بسبابتها عن مكان الكهرباء لتريه لى، شعرت برجفة فى كل جسمى). الدكتور قال لى بعد 15 يومًا هتتصلح الأعصاب وأمشى تانى، نفسى أخرج زى الأول. ما بقدرش أقوم من السرير، بنتى بتجيب لى السطل عشان أتصيَّر (تتبول) فى السرير». يستمر التوغل داخل الممر الضيق، يدعوك الجميع لأن تصور بيوتهم دون خجل. لم يعد هناك مكان للخجل أمام حقيقة موجعة كالفقر. تنادينى أم مصطفى بيجن (70 سنة) وهى واقفة خلف سور صغير مبنى أمام البيت كساتر الحروب زمان. بلكونة تطل مباشرة على الشارع الرئيسى. «جيت هنا قبل ما أتجوز، كان عمرى 16 سنة. جوزى متوفى. معايا عيل فى السجن واخد 19 سنة. عليه 3 قواضى. الظابط عمل له قضية بودرة، والله اللى باصلِّى له ابنى عمره ما مسكها. دى خد فيها ست سنين. وخد عشرة فى واحدة سرقة بالإكراه، وواحدة تانية سرقة بالإكراه تلات سنين. كل ده عشان ابنى جرى ورا الظابط بسكينة. ابنى فى سجن 440 طريق مصر - إسكندرية، ما معييش عشان أروح أزوره. كل فين وفين. المشوار جامد على، وأنا ست كبيرة. فيه ناس طيبة بتيجى تدينى عشان الزيارة، بتكلفنى مواصلات بس 150 جنى، وبعدين أنا معايا بنات. من ساعة الثورة ما بنشوفوش حكومة هنا. الحتة هنا كلها برشام وقرف، علنى. عايزة أطلع من هنا، تعبت خلاص، العيل من عيالنا ينزل حلو بعدها، بعيد عنك، يجيله أمراض الصدر كلها. شركة العضم اللى جنبنا لو تقعد شوية هاتطفش من ريحيتها. عيالنا كلها متبهدلة، كلها فى السجون، من العيشة، ما فيش عيشة. أكتر اللى هنا بيشحتوا. الشيوخ بييجوا يدّونا بطانية كل سنة. ابنى اسمه مصطفى بس دلعه «بيجن»، على اسم رئيس وزراء إسرائيل زمان. أبوه كان بيشتغل فى الجمرك ومخنوق من العيشة أيام مبارك، قال هنسميه «بيجن». بتاع السجل المدنى ما وافقش، فقام سمّاه مصطفى والدلع «بيجن». عايزين يوصل الكلام ده لمحمد مرسى: إحنا مدفونين ياريس». فى أثناء حوارى مع «أم مصطفى»، كان أحمد (21 سنة) الذى يعمل فى ورشة كاوتش فى المكس، فى طريق عودته من العمل، يثير صخبا مع زملائه فى أثناء سيره مثل صخب التلاميد يوم الخميس عند الخروج من المدرسة. استوقفته عنوة. كان خشنا فى تعامله معى. لكن بالمسايسة لانت ملامحه وظهر حرج مراهقته. فى نهاية كلامنا أصر أن يعزمنا على حاجة ساقعة. «عايز أعيش عيشة نضيفة، زى كل الناس. الثورة ما عملتش حاجة، ولا الهوا، كأنك يابوزيد ما غزيت. الثورة بتاعة ليبيا كانوا بياخدوا 500 دينار، بعد الثورة بياخدوا ألف. إحنا قبل الثورة، بعد الثورة، زى ماحنا. الثورة كانت تخريب هنا، ثورة حرامية بس. إزاى نشارك فى الثورة؟ يعنى نروح نكسروا توكيل العربيات، ولّا نروح نسرق عربيات من الحضّانة، ولاّ نقلِّب كارفور، ولاّ نسرق خردة السكة الحديد زى الحرامية ماعملوا؟ إحنا قعدنا فى بيوتنا باحترامنا وحميناها. المهرجانات دى حياتنا، بالذات (الدخلاوية)». استوقفتنى سماح حسن (39 سنة، ست بيت، وأم ل3 بنات) فى أثناء مرورى «وإحنا مالناش نفس نتكلم ولا إيه»؟ فجلست وتحدثت معها أمام دكان الخضار الذى تجلس أمامه: «اتولدت فى (المأوى). كان كل نمرة عبارة عن أوضة واحدة 3 فى 3 متر. إحنا هنا أبا عن جد. (المأوى) زمان كانت ملاحة سمك، وفيها صيادين جعافرة وجهانوة وفلاحين. جم الحكومة ردموا الملاحة، واتوقف الصيد. كان الصيادين بيرزقوا بالفلايك. كنت بمَّرن كاراتيه فى حرس الحدود. فيه بيوت خشب محتاجة تتجدد. كنا أيام الثورة بنحمى بيوتنا من البطلجية اللى عايشين هنا فى المأوى ومن اللى هربوا من السجون. فى البداية كانت ثورة ناجحة ألف فى المية. بعد كده لما اتحولت لبلطجية ما بقتش ثورة. ما أعترفش بعد 25 يناير إن فيه شهيد. جوزى شغّال تبّاع على باب الله. ساعات بيُرزق وساعات ما بيُرزقش. ومركِّب مسامير وشريحة فى رجليه بورق رسمى، والحكومة مارضتش تطلع لى معاش. لما البلطجية سرقوا حضَّانة العربيات اللى جنبنا، كانت العربية بتتباع هنا بتلتميت جنى. ما حدش هنا يقدر يقول مين كان بيبيع ومين كان بيشترى. ما فيش بلطجى هيغيَّر ثورة، وما فيش واحد شيخ غيّر ثورة، ما فيش واحد من الإخوان غيّر ثورة. الإخوان كانت ليهم حاجتين اتنين قبل الثورة: أمن دولة والسجون والجوامع اعتكاف. إحنا شباب اسكندرية والقاهرة غيروا ثورة. ووحِّد بالله، محمد مرسى على راسنا من فوق، بس يغيّر البلد، يراعى ربنا فينا، يجى يشوف مأوتنا شكلها إيه. إحنا انتخبناه، قلنا هيغيَّر العالم الأولانى، بس اللى جه أسوَد من اللى عدّى ياريس، اللى جى أَسوَد من اللى عدّى ياريس». انتهى كلام الست سماح وكانت توجه كلماتها الأخيرة فى التسجيل الذى معى وتنظر إليه كأن الرئيس مرسى يسمع كلامها ويراها مباشرة على الهواء. 2- حقِّنا فى السكن كتب- يحيى شوكت: مرة قابلت مدرس العربى الذى يسكن فى منطقة فى حى الدقى فى الجيزة ترى الدولة أنها منطقة شعبية، أو طبقا لمصطلح القرن «منطقة عشوائية». يستفزنى موقف أجهزة الدولة والإعلام من العمران المصرى المعاصر. لكن ما يقلقنى هو ربط النسق العمرانى بالسلوك الاجتماعى، ليصبح المكان الذى ولد فيه شخص ما مفتاح تفسير كامل ماضيه وحاضره ومستقبله. وهذا ما يسمى بالتمييز، وهو محرم فى القانون المصرى. يرى الفنان محمد صبحى أن العشوائيات أصبحت «حزامًا ناسفًا» حول القاهرة ويجب «القضاء عليها». بينما وصف وزير التنمية المحلية الأسبق المستشار محمد عطية العشوائيات بأنها «قنبلة موقوتة». أما جهاز التخطيط العمرانى فرأيه أنه يجب «تحزيم العشوائيات». حتى الجهاز المعنى بتطويرها، صندوق تطوير المناطق العشوائية، ماض فى «إزالتها». فأصبح للرأى العام هاجس ثورة الجياع وهجوم سكان العشوائيات على المناطق الأخرى غير العشوائية. طيب ومدرس العربى، إيه اللى ودّاه هناك؟ هناك احتياج سنوى لنحو 300 ألف مسكن لمحدودى الدخل. قامت الحكومة من خلال «وعد مبارك» بتوفير نحو 80 ألف وحدة سنويا بين عام 2005 و2011، حسب الوعد والله أعلم. باختصار شديد، من هذا المشروع القومى هناك شقق تم تسليمها لمن يستحق، وهناك ما تم تسليمه لمن لا يستحق، وهناك من رفض تسلُّمها لأنها فى مكان غير مناسب ومحروم من الخدمات: التنقل والتسوق والأمن. بالإضافة، إلى ذلك هناك من لم يتقدم لبرنامج الإسكان نظرا لارتفاع أسعار الوحدات، والتى تم توجيهها لمتوسطى الدخل -مرتبه مابين 1000 و2500 جنيه شهريا- لا لمحدودى الدخل، من يتقاضى راتبا مابين 150 و500 جنيه شهربا. يبقى فاضل كده 220 ألف وحدة ناقصة. ده غير من سقط من حسبة المشروع القومى. فبدل ما الناس تبقى عايشة فوق بعضها أو فى الشارع؛ بادر الأهالى بسد جزء من هذا العجز بمجهوداتهم الذاتية. فاستلفوا الأول عشان الحفر والأساسات، ولما ربنا فرج طلعوا بالدور الأرضى، وبعدين شطبوه وجهزوه واتجوزوا فيه. بعد كده أخوهم حب يتجوز فصب الدور الأول، ولفت العجلة. الحقيقة أن الدولة تركت المواطن المصرى لأهواء سوق أراضٍ وعقارات حرة تماما من أى رقابة أو حماية لراغب السكن، فبات يزاحم حقنا فى السكن مضاربات المصريين والأجانب القادرين فى بورصة الأراضى والعقارات حتى أصبح متوسط سعر السكن سبعة أضعاف الدخل السنوى وأكثر. فى حين أن فى دول رأسمالية مثل أمريكا واليابان، تبلغ النسبة أربع أضعاف فقط. هذا بالإضافة إلى إهمال العمران القائم فى المدن والقرى على مدار الأربعين عاما الماضية على حساب وهم المدن الجديدة، حيث تم إنفاق المليارات من موارد دولتنا المحدودة على بناء نحو 22 مدينة فى أنحاء مصر، منها سبع فى القاهرة الكبرى وحدها، لم تتمكن من جذب أقلية منا، نحو 2 بالمئة، يستهلكون نصيب الأسد من مياهنا وطاقتنا، بينما مجتمعات المجهودات الذاتية استوعبت أكثر من نصفنا، وقبلت أسلوب التقشف وتوفير استهلاك الموارد. فالقطاع الخاص غير الرسمى ذو رقابة شعبية متفاوتة أنتج نسقًا عمرانيا معاصرًا من المجهودات الذاتية حقق المطالب الأساسية للغالبية العظمى من المصريين، فى حين أن القطاع العام والقطاع الخاص الرسمى أصحاب السلطة شبه المطلقة، أنتجا نسقا عمرانيا متيبسا يخدم مصالح البعض على حساب الغالبية. الموضوع ليس رومانسيا، وعمرانيا كله، الذاتى و«الرسمى»؛ ليس فى أحسن أحواله، بل هناك ملايين عايشين فى خطر أن العمارة تنهار، أو دون مياه صالحة للشرب، أو فى درجات تكدس غير صحية. لكن المشكلات العمرانية يجب تناولها فى ظل السياسات الاقتصادية الحاكمة للعمران، حينها، تسقط نظرية العشوائيات الفارغة ويظهر مدرس العربى ليس كالاستثناء الذى يثبت القاعدة، إنما وجه من أوجه المجتمع المصرى المعاصر الذى صنع لنفسه حقيقة غير مثالية كبديل للوهم الرسمى.