تصير طبيبا لأنك تحب المهنة، تحب تخفيف الآلام، وتحب التعامل مع الناس، وتحب أسرار الجسم. أو لأنك تحب المال الذى تحصل عليه من المرضى. حتى هذه لا أنكرها عليك. فمن الأفضل أن تحب التكسب من مهنة طيبة لا من مهنة خبيثة. وما ينطبق على الطب ينطبق على غيره. اختيارك مهنتك -بعيدا عن ضرورات مكتب التنسيق- يعبر عن شخصيتك، كما اختيارك شريكة حياتك، وأصدقاءك والكتب التى تقرؤها والأماكن التى تحب الوجود فيها. كان لدينا صديق فى طفولتنا يصرّ منذ سِنِى حياته الأولى على أنه سيصير ضابطا فى الجيش. الرياضات التى اختارها والأنشطة التى مارسها كلها تصب فى خانة تحقيق حلمه ذاك، وقد حدث. بينما كان لنا رفيق فى الحى حلمه أن يصير ضابط شرطة، لكن مسلكه مسلك متشرد خارج عن القانون، وهذا ما آلت إليه حياته. وتلك حكاية لا تصلح للقياس عليها فى أى شىء، لكننى أتوقف عندها كمثال للرغبة فى تجاوز القانون التى صارت عند بعض من أبناء جيلنا دافعا للرغبة فى الالتحاق بجهاز الشرطة، بينما كانت عكس ذلك تماما حين كانت الصورة عن الشرطة هى صورة الجانب الخيّر من لعبة «العسكر والحرامية». أى نوع من الشخصيات إذن صارت مهنة الشرطة تجذبه؟ سأترك لكم الإجابة كل من خلال تجربته ومعرفته. لكننى سأركز على الجانب المشرق من الموضوع، لخصه تعليق لصديق على «فيسبوك» على مقطع فيديو لضابط شرطة يطارد بلطجية فى شارع عبد العزيز. الصديق قال: هذا الضابط لا يفعل ذلك لأن هناك أوامر له بأن يفعل ذلك، إنما يفعل ذلك لأنه «راجل ابن راجل». وما ينطبق على هذا الشرطى ينطبق على نماذج أخرى كثيرة من أفراد جهاز الشرطة ذوى الضمير نسمع حكاياتهم مؤخرا، فى الإسكندرية والعريش وغيرهما. وهذا شىء جربناه جميعا بلا شك، أهل الضمير لا يستطيعون أن يخالفوا ضميرهم فى أى ظروف، حتى لو قالوا لأنفسهم «إنشالله تولع»، لأن طبعهم يغلب محاولة تطبُّعهم. أبناء النساء الطيبات والرجال الطيبين يتصرفون بدافع ليس محسوبا فى السياسة، لكن يجب أن نُدخِله فى السياسة. يجب أن نتعمد تغيير الصورة التى التصقت فى مخيلة أجيال عن ضابط الشرطة، وأن نضع حدا لأى فساد فى إجراءات القبول فى الكلية. وهو فساد معروف ومحكى ومروى بين أوساط الناس. اليوم الذى تعود فيه مهنة الشرطة لمداعبة خيال الأطفال «الطيبين»، الراغبين فى الانتصار على «الحرامية»، وفى مساعدة الناس، وفى تنفيذ القانون، هو اليوم الذى نستطيع أن نقول فيه إن حال الشرطة بدأ ينصلح. الوسائل السياسية والمبادرات تعددت، ولن أخوض فيها الآن، فمعظمها جيد وواف بالغرض، لكن الأصل هو الإرادة. لا نية للإصلاح فى ظل إنكار المشكلة، لا نية للإصلاح ما دام اللواء منصور العيسوى لا يزال ينكر وجود قناصة فى الشرطة بينما الدلائل واحدا بعد الآخر تشير إلى عكس كلامه، والإنكار وغياب النية يغيّب الثقة. تخيل أنك فى جلسة صلح عرفى بينما المدعى عليه ينكر تماما أى سوء تصرف. سيكون رد فعلك التلقائى: «طيب ما دام الموضوع كده مالوش لازمة وجودنا هنا، ولو اللى عمل العمايل دى عفاريت، يبقى نروح نتصالح مع العفاريت». وليس أقدر على معرفة مساكن العفاريت من أبناء الشرطة الشرفاء أنفسهم. حين خطف قراصنة صوماليون رجلا بريطانيا وزوجته اجتمعت الجالية الصومالية فى بريطانيا، وهى جالية فقيرة بوجه عامّ، وأنشؤوا هيئة وظيفتها تحرير هاتين الرهينتين. فعلت الجالية ذلك تطوعا، لا لأنها مسؤولة عن أفعال القراصنة، بل لرغبتها فى التبرؤ من تلك الأفعال وفى تطهير اسمها. بعض قراصنة جهاز الشرطة اختطفوا مصر وأمنها رهينة، وسيكون على الشرفاء من أبناء الشرطة التطوع لتحريرهما، ولتطهير اسم الجهاز، ولخلق «حواديت» جديدة تُحكى للأطفال عن بطولة الشرطة ووطنيتها. المواجهات بين الألتراس والشرطة جرس إنذار لنا جميعا، بأن الفجوة تتسع بدلا من أن تضيق، وأن ما أمكن سابقا رتقه، قد يصبح التصرف الوحيد الملائم له مستقبلا هو إلقاءه فى سلة المهملات وشراء ثوب جديد تماما.