وقبل أن تصل إلى المدينةالمنورة قد تتذكر بعض ما جرى من وقائع تاريخية مهمة على هذه الأرض المباركة، وقد تتطلع حولك بحثا عن طبيعة هذه الأرض الطاهرة التى أكرمها المولى -عز وجل- بهجرة آخر رسله إليها، وإقامته فيها لأكثر من عشر سنوات، وهى سنواته الأخيرة، ثم مقامه الكريم هناك. ولعلك تسترجع بعض تفاصيل حياة الصحابة الكرام، وعظمة أخلاقهم، وتضحياتهم المدهشة، وبخاصة الأنصار، فتدعو لهم جميعا من أعماق قلبك. ثم تواصل التأمل فى معجزات سورة سبأ، وفى قوله تعالى: «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ». فها هم الغالبية العظمى من البشر يظلمون أنفسهم بحماقة لا مزيد عليها، ومن ثم يتمزقون كل ممزق، ويتحولون فى النهاية إلى أحاديث، أى مجرد كلمات تحكى للناس ما حدث لهم نتيجة الظلم والغفلة والكِبْر والحماقة، وفى ذلك آيات بيِّنات لمن يصبر على فهم الحكمة الإلهية فى الخلق، ويشكر على نعم لا تُحصَى، فهل ثمة من يعتبر؟ وانظر فى قوله تعالى: «قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ. قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم. قُلْ أَرُونِى الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ». حقا هو وحده فقط الرزاق العليم، ورسوله هو البشير الرحيم، والنذير المبين، ولنتأمل فى قوله: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ»، وكذلك: «تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ»! فأى تواضع هذا، وأى أريحية هذه؟! ومع ذلك ففى النهاية سنجد أن أكثر الناس لا يفقهون هذا، ومن ثم يسقطون فى الشرك، وهم لا يعلمون! ثم راجع دلالة هذه الموعظة القرآنية: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىٌءٍ شَهِيدٌ». فهكذا يكون النظر العقلى الصحيح، أو التفكر السليم من خلال حوار الإنسان مع ذاته، أو مع شخص آخر فقط، لأن الحوار الجماعى قد يتسرب إليه بعض ضوضاء الغوغائية، أو ضغوط الأكثرية، أو نفوذ المفاهيم السائدة، أو تأثير الأفكار المسبقة، وبعد هذا الحوار الهادئ، والتأمل العميق، قد تتجلى الحقيقة بازغة أمام أصحاب النصيب، الذين بذلوا الجهد بإخلاص، فنالوا الهداية الموعودة، أمَّا الأجر فى النهاية فهو على الله، إذ إنه -سبحانه وتعالى- على كل شىء شهيد.