فى الستينيات من القرن الماضى، سادت صفة الازدواجية الفنية، فوجدنا عددًا لا بأس به من الفنانين التشكيليين الذين يكتبون أدبًا، كان الرائد فى هذا المجال الكاتب والفنان التشكيلى أمين ريان، والذى أنشأ رواية خصيصًا للكتابة عن فنان وأديب فى الوقت نفسه، هذا الفنان الذى أحبّ «الموديل» الخاص به، هذا الموديل، تحوَّل إلى حبيبة كاملة لبطل الرواية، وتعتبر شخصية «أطاطا»، وهو اسم الموديل، من أشهر الشخصيات الروائية فى هذا المجال. وربما كانت شهرة أمين ريان جاءت له كأديب، بروايتَيه «حافة الليل» 1954، و«القاهرة» 1956، وظلّت مسألة الفنان التشكيلى صفة تابعة له ككاتب وأديب وقاص، وقد حدث العكس مع مَن تلوه فى الجيل اللاحق، ففى عام 1960 صدرت مجموعة قصص جماعية، وهى مجموعة «عيش وملح»، وقد تحدَّثنا عنها كثيرًا لأهميتها، وتضمَّنت هذه المجموعة اثنين من الفنانين التشكيليين، أولهما الفنان عز الدين نجيب، الذى أسهم فى المجموعة بقصتَين، هما «الصبح» و«نظرة يا جوهرى»، وكتب له التقديم كاتب آخر يعتبر من أهم الذين دشّنوا ظاهرة «جيل الستينيات»، وهو الكاتب محمد جاد، أما الكاتب الثانى فهو الدسوقى فهمى الذى لم يكتفِ بالرسم والإبداع القصصى فقط، بل إنه تخصَّص فى ترجمة بعض آثار الكاتب التشيكى فرانز كافكا، ومن أشهر ترجماته لكافكا رواية «أمريكا». وبدأت ظاهرة الكاتب الذى يبدع فى أكثر من مجال تنتشر على مستويات أخرى، فوجدنا الشاعر مجدى نجيب كذلك يمارس الفن، وقبله بالطبع كان صلاح جاهين، وبعدهما أو قبلهما الفنان جورج البهجورى، الذى أصدر فى التسعينيات روايته «أيقونة فلتس»، وما بعدها، وكذلك الكاريكاريست عبد السميع الذى أصدر مجموعة قصصية رائعة عنوانها «السلسلة»، وهكذا لدينا ظاهرة أصبحت قوية وتحتاج إلى دراسة مستقلة. وفى عام 1965، نشر الفنان محمود بقشيش مع زميله الفنان سيد سعيد، مجموعة قصصية عنوانها «الموجة»، وجاءت رسوم المجموعة الداخلية للفنان محمود بقشيش، بينما الغلاف كان من تصميم الفنان محمد عثمان، وانطوت المجموعة على سبع قصص لبقشيش، وهى: «أيام والخريف والقاع والهزيمة والجوع وحادث وجود والموجة»، بينما ضمت سبع قصص أخرى للفنان سيد سعيد، وهى: «لعبة الأقواس ودوار والقبضة والبطل والصمت والصخر وحكاية غير عنصرية»، واتسمت الكتابة عند الكاتبَين بروح وجودية متسائلة وحائرة، وكانت الثقافة الوجودية هى البطل الأكثر انتشارًا فى ذلك الوقت. واستمر الكاتبان فى مزاولة الكتابة، مع ممارسة فنون أخرى، فمارس سيد سعيد فن الرسم والإخراج السينمائى مع النقد السينمائى، وله فيلم شهير عنوانه «القبطان»، قام ببطولته الفنان محمود عبد العزيز، أما محمود بقشيش فانقطع بشكل أكثر لممارسة الرسم، وتميّز كثيرًا فى النقد التشكيلى، ومن وجهة نظرى أعتبره من النقاد التشكيليين الأهم فى مسيرة الفن التشكيلى ونقده، ولا يقل بشكل ما عن فنان آخر سبقه فى ممارسة النقد التشكيلى، وهو رمسيس يونان. وكان نشر القصص فى المرتبة الثانية لدى بقشيش، فراح ينشر قصصه بعد ذلك على فترات متباعدة، ولم ينشغل بجمعها فى ما بعد، ومن بين ما نشره قصة «الدخان» فى مجلة «صباح الخير» الصادرة فى 25 مايو 1967، وهى قصة ترصد الملل الذى كان ينتاب الناس أو المثقف فى ذلك الوقت، وبالطبع فهى كانت تلاحق الأفكار الوجودية السارترية على وجه الخصوص. ورغم الإنتاج المتميّز الذى أبدعه بقشيش فى مجال الرسم، وقد شارك فى معارض جماعية منذ عام تخرجه فى كلية الفنون الجميلة عام 1963، فإن معرضه الخاص والمنفرد الأول تأخَّر حتى عام 1979، وكان بالقلم الرصاص، ثم أقام معرضًا آخر فى أتيليه القاهرة عام 1984، وبعدها توالت معارضه الخاصة، بعدما أصبح محمود بقشيش رقمًا مهمًّا فى الساحة الثقافية والتشكيلية، وله كتب فى النقد التشكيلى لا يستطيع أى متابع لحركة الفن التشكيلى فى مصر أن يفهمها ويستوعب تعقيداتها دون العودة إلى كتابات بقشيش. ولم يكن محمود يمارس النقد والرسم فقط، بل إنه كان قائدًا فى المجال الثقافى، ففى أوائل عام 1979 أصدر كراسة ثقافية متميزة، واختار لها عنوانًا دالًّا هو «آفاق 79»، وفكرة هذه الكراسة هى نشر الإبداعات اللافتة لكتّاب شباب، ولم ينشروا من قبل، أو تنشر لكتاب راسخين بعضًا من إبداعاتهم المتميزة، وهكذا وجدت قصص الكاتبة سلوى طريقها لأول مرة فى عالم النشر عند محمود بقشيش، فنشر لها كراستَين، هما «حكاية بسيطة» و«الخصباء والجدباء»، وكذلك نشر لأول مرة للكاتبة سهام بيومى، وغيرها، وكان بقشيش يجلس فى أتيليه القاهرة، ويوزّع بنفسه كراساته الصغيرة، ويبيعها بثمن التكلفة فقط لا غير، ولا يتوقَّف الأمر عند هذا الأمر فقط، بل إنه كان يقيم لإصداراته الندوات، ويوفّر لها النقاد المرموقين، مثل إبراهيم فتحى وآخرين. ورحل محمود بقشيش فى 13 مارس عام 2001، وفى عام 2002 أقامت جمعية النقاد معرضًا جماعيًّا شاملًا، واستعانت بخمس لوحات لمحمود بقشيش فى هذا المعرض، وبعدما انتهى المعرض، ومنذ ذلك التاريخ لم تعد اللوحات إلى أسرته، وطالبت الكاتبة هدى يونس، أرملة الراحل، بإعادة اللوحات أكثر من مرة، وكتبت فى الصحف والمجلات عن هذا السطو العلنى والسافر للوحات الراحل، وكانت الردود كلها غامضة، رغم وجود شهود لمجريات هذا الحدث، ومنهم الفنان الكبير عز الدين نجيب، ولكن لا مجيب على أى كتابات وملاحظات واستفسارات، ولا أعرف حتى الآن، ولا تعرف السيدة هدى يونس المصير الذى لاقته لوحات الفنان الراحل الكبير محمود بقشيش.