عندما يوجه الرئيس إلى الأمة خطابا تبدأ التعليقات فى أعقابه من كل فئات الشعب، وبالطبع من يناقش خطاب الرئيس من منظور احتياجاته، فالفقراء، وهم غالبية فى بلادنا، يتمنون أن تؤمن لهم ضرورات الحياة وأن تساعدهم الإمكانيات على تغطيتها وأن يعيشوا مستورين. أما من كان ميسورا فإنه يطمح فى مزيد من التسهيلات ورفع مستوى دخله، وإذا كان رجل مال أو صناعة فيسعى لمزيد من الثروة وفرص سهلة للاستثمار ومضاعفة المكاسب. ولأن الخطاب هو للرئيس، يهتم السياسيون بقراءته وتحليله فى الداخل والخارج على السواء، ومن زاوية أخرى يهتم مخرجو وفنيو الفيديو بتحليل الجوانب السلبية والإيجابية فى المشهد المرئى، وكل ما يحدث من هذا الزخم أمر طبيعى مع الرجل الأول فى الدولة، الذى تنعكس من فكره وعقيدته السياسية ومنظومة المفاهيم الحاكمة لديه شخصيا، ومن خلال مستشاريه ورجال إدارته، أساليب حكم الدولة وبناء خطط التنمية. أشار الرئيس إلى تطوير القرى الأكثر فقرا، وكان أمينا فى توضيح أنه استعان فى هذا بالدراسات التى تمت فى فترة سابقة، وبالفعل كانت وزارة التضامن قد قامت بدراسات عديدة فى عهد د.على مصيلحى، وهو مهندس من خريجى الفنية العسكرية ومن أوئل المصريين الذين حصلوا على درجة الدكتوراه فى مجال تكنولوجيا المعلومات، وكان من ضمن هذه الدراسات المتكاملة منظومة توزيع الخبز بالبطاقات وبالمثل البنزين، وأيضا على سبيل المثال لا الحصر إنشاء مخابز مليونية ينتج الواحد منها مليون رغيف يوميا، يمر الرغيف فيها بعد تسويته بمرحلة للتبريد ثم أخرى للتغليف، على أن يباع فى منافذ تتوزع بداية فى الأماكن الأكثر فقرا والعشوائيات. تم هذا قبل 25 يناير 2011، وفى هذا عبرة ودرس أن ليس كل من عملوا فى عصر مبارك كانوا فاسدين، وما أكثر الشرفاء الذين وظفوا علمهم وخبرتهم لتحسين أحوال هذا الوطن فى أزمنة فساد واعوجاج وسوء إدارة. كما أشار الرئيس إلى موضوع ينم عن الحكمة فى اتخاذ القرار، عندما يتعلق الأمر بمشروعات كبرى، وهو استصلاح مليون فدان للزراعة، لأنه قام بمراجعة التجارب السابقة فى الاستصلاح واكتشف فيها عيوبا أدت إلى الفشل أو عدم تحقيق النتائج المرجوة، وحتى لا يتحول الجهد فى هذا الشأن إلى عملية دعائية تكسب فى المدى القريب الإعجاب والرضا الجماهيرى، بينما تتحول على المدى البعيد إلى كبوة لا ينتج عنها إلا الإخفاق والإحباط وفقدان مبالغ ضخمة، لذلك تأخرت بداية مشروع المليون فدان التى وعد بها الرئيس فى العام الأول لربط المشروع بإطار عمرانى متكامل، من أجل ضمان نجاحه واستقراره. الاستعانة بما أنتجته خبرات سابقة وتأجيل تنفيذ المشروعات الكبرى حتى ولو كان هناك وعد بها، إلا بعد التأكد من سلامتها وخلوها من أوجه القصور، فهذا توجه يقود إلى الاطمئنان والثقة، لكن فى نفس الوقت يثور تساؤل مهم، فكل ما تم بدء العمل فيه من مشروعات كبيرة حتى الآن بعيد كل البعد عن الصناعة الوطنية، التى تشكل إضافة للدخل القومى وتوظف عمالة كبيرة، وواضح من التجارب السابقة فى مصر أن القطاع الخاص لا يشغل باله بالمشروعات الصناعية الاستراتيجية على مدى تاريخه فى مصر، علما بأن تحول مصر من بلد زراعى فقط إلى بلد زراعى صناعى، تم من خلال القاعدة الصناعية التى تأسست فى عهد الزعيم جمال عبد الناصر، لكن هذا الإنجاز لم يأخذ حقه فى الرعاية من بعده فى أن تضاف إليه صناعات جديدة، أو أن يتم الاهتمام بإجراء العمليات اللازمة من الإحلال والتجديد، بل والصيانة، ثم توالت عمليات الخصخصة الجائرة التى بيعت فيها مصانع كثيرة بأبخس مما لا يمكن أن يتصوره عقل، وإهدار بلا أدنى درجة من الضمير أو الحس الأخلاقى لهذه الثروة بعد انتفاء واختفاء الحس الوطنى، وبعد كل هذا بقيت حتى الآن مصانع منها تدور ماكيناتها وتنتج، ولم تنجح محاولات الهدم الكامل لهذه القاعدة، مع الأخذ فى الاعتبار أن الصناعات الاستراتيجية فى كل الدول مهما كان توجهها السياسى يتم تأمينها بملكية كاملة من الدولة، أو بملكية تبلغ 51%، لذلك يبقى غامضا ومخيفا أن يغيب عن الدولة المصرية الاهتمام بالصناعة، إذ لا حس ولا خبر عن هذا الموضوع. لقد أصبحت قلاع عظيمة ومجيدة فى تاريخ الصناعة المصرية شبه متوقفة الآن عن الإنتاج، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مصانع الغزل والنسيج فى المحلة ومثيلاتها فى كفر الدوار وشركة الحديد والصلب فى حلوان، والسؤال المحير هنا هو: لماذا لا تجرى عمليات الإحلال للماكينات التى انتهى عمرها الافتراضى؟ ولماذا لا يتم استبدال أحدث ما فى العصر من تكنولوجيا بها، وإن كانت تحتاج إلى إدارة ذات مفاهيم غير تقليدية؟ لماذا لا يتم توفير هذه الإدارة؟ وإن كان هناك تخوف من الآثار الجانبية أحيانا للملكية العامة فلماذا لا يدخل القطاع الخاص شريكا فى الملكية؟ مصر تحتاج إلى نظرة جادة وقوية لموضوع التصنيع، الذى يجب أن يكون قضية قومية تحتل الصدارة فى أولويات العمل الوطنى، فكل الدول التى حققت قفزات كبيرة فى المجال الاقتصادى كانت الصناعة بوابة مرورها للتقدم والازدهار.