منذ أن أنشأ نجيب محفوظ ندوته الأسبوعية، ولقاءه الدائم مع الكتّاب والمبدعين الشباب، لم يكن يقيم حوارات فى الفن والحياة والفلسفة، ولكنه كان يقرأ لهم كتاباتهم، ويحاورهم فيها، ويشير لهم إلى مواطن الخطأ أو الصواب فى ما يكتبونه، رغم أنه كان بطبعه مجاملا، وكان مشجعا ذا صدر رحب تماما، وكان يعلم أهمية دوره، وأهمية نصائحه وملاحظاته التى كان يلقيها وينثرها على رواد ندوته. وكان من أشهر هؤلاء الرواد من الشباب، إبراهيم منصور وغالى شكرى ونجيب سرور وجميل عطية إبراهيم وإبراهيم فتحى وعبد الحكيم قاسم وغيرهم، ومن حظى بالجلوس فى هذه الندوة الأسبوعية قد حظى بكنز ثرى من الجدل والحوار والمشاكسات والمباراة التى يقيمها الروّاد الشباب مع هذا الطود الشامخ، ولم تكن أغراض تلك المباراة محاولة الفهم فى كل الأحيان، ولكن كان البعض يحاولون «زنق» نجيب محفوظ، ووضعه فى مأزق، ودفعه للاعترافات بما كان مستورا فى حياته المتعددة الوجوه، فى السياسة والثقافة والصحافة والسينما والحب والوظيفة، وهكذا. ولكن نجيب محفوظ كان نابها جدا لهذه المقالب، فكان يخرج بلباقة شديدة، أو كان يتجاهل بعض الأسئلة زاعما أنه لم يسمع، وينتقل بخفة لاعب كرة قديم إلى زوايا أخرى من الحديث. وكان الكاتب الشاب جميل عطية إبراهيم من روّاد لقاءات نجيب محفوظ فى مقهى ريش، ويعتبر جميل من المتون التى قامت عليها ظاهرة جيل الستينيات فى القصة القصيرة، هذا الجيل الذى حمل فى موجاته الصاخبة والعنيفة ألوانا من التجديد والتغيير المتنوع فى الإبداع بعد يوسف إدريس، واستطاع هذا الجيل أن يأتى بتنويعات قوية فى المجال الأدبى، وبدأت المجلات والصحف تنتبه إلى هذه الظاهرة. وأعدت مجلة «القصة» عددا كاملا تحت عنوان «طلائع القصة القصيرة» فى منتصف عام 1965، وقدمت فيه الكتّاب الجدد مثل جمال الغيطانى ومحمد البساطى وغيرهما، ونشرت المجلة قصص هؤلاء الشباب، مع قراءات نقدية لكبار النقاد فى ذلك الوقت، مثل د. على الراعى ود. محمد غنيمى هلال وغيرهما، وعلى المنهج نفسه أعدت مجلة «المجلة» كذلك عددا كاملا وشاملا عن شباب القصة القصيرة، وذلك فى أغسطس عام 1966، وكانت الظاهرة تعبر عن نفسها بقوة، وبدأت تتضح معالمها المتنوعة عند إبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله ووحيد حامد وضياء الشرقاوى ومحمد حافظ رجب ومجيد طوبيا وآخرين. ومثلما فعلت مجلة «القصة» فعلت مجلة «المجلة»، بل زادت قليلا، إذ إن مجلة «القصة» كانت تضع كل ثلاث قصص أمام ناقد كبير، فيتناولها جميعا، ولكن مجلة «المجلة»، كانت تضع قصة واحدة أمام ناقد، ولم تقتصر المسألة النقدية على النقاد، بل شارك فى ملف مجلة «المجلة»، نقاد ومبدعون كبار على السواء. وكان من حظ جميل عطية أن يقدمه نجيب محفوظ، ويكتب عن قصته «الحركة ودلالات الزمن»، وأعتقد أنها المرة الأولى وربما الأخيرة التى فعلها نجيب محفوظ على هذا النحو، إذ كان يقتصر على المناقشة والتقديم الشفويين، ولكن كانت تحدث بعض المماحكات من زاوية بعض الملحاحين، الذين يذهبون إلى محفوظ ويطلبون منه كلمة نقدية «تسويقية»، ثم يضعونها على الغلاف. قصة «الحركة ودلالات الزمن» لجميل عطية كانت تسجيلا فنيا لمدينة «أصيلا» المغربية، وهى تتحدث عن شخص مثقف يعيش غريبا فى هذه المدينة، وهذه القصة أصبحت فى ما بعد فصلا فى أولى روايات جميل، وكتب نجيب محفوظ عن هذه القصة قائلا: «لحظة حضور شاملة، جمعت فى إطارها تراكمات من المواقف، بين (أصيلة) والقاهرة، ثم ضمت إليها -بمعونة الراديو- مجموعة أخرى من المواقف والأحداث فى الأرض كلها، بأسلوب يذكّر بتكتكة الساعة، فى رتابته ولامبالاته، ولكنه يطابق موضوعه مطابقة فنية بارعة، وتتلاقى هموم إنسانية يومية صغيرة بهموم الدنيا الكبيرة...». وراح محفوظ يضع ملاحظاته المتنوعة حول قصة جميل، وكان هذا -فى حد ذاته- دفعا قويا لكاتب شاب، من كاتب كبير ومؤثر فى قامة نجيب محفوظ. بعدها انطلق جميل فى مشواره الأدبى، وشارك بعض زملائه فى إصدار أهم مجلة طليعية مصرية فى ذلك الوقت، وهى مجلة «جاليرى 68»، هذه المجلة التى لعبت دورا ثقافيا كبيرا فى معنى الاستقلال الثقافى بشكل ما، واستمر جميل فى إبداعه، وأصدر مجموعته القصصية الأولى «الحداد يليق بالأصدقاء»، ثم نشر روايته الأولى «أصيلا»، وكان ينشر قصصه فى مجلات «الطليعة» و«الكاتب» و«الآداب»، و«صباح الخير»، إذ له قصة بديعة عنوانها «لقاء خارج الأسوار» نشرها فى 3 مايو عام 1973 فى مجلة «صباح الخير»، وغيرها من مجلات، ثم تزوج بسويسرية، وذهب معها إلى سويسرا، وما زال جميل يواصل مشواره الأدبى والإبداعى، وهو لا يغيب كثيرا عن القاهرة، وكان يطلّ علينا كل بضعة أشهر، ليقابل الأصدقاء، ولم تكن تفوته ظاهرة «معرض الكتاب»، ولكنه تغيب هذين العامين الفائتين، علّ المانع يكون خيرا، وكتب جميل كثيرا من الروايات مثل «البحر ليس بملآن»، و«النزول إلى البحر» و«المسألة الهمجية» و«خزانة الكلام» و«أوراق سكندرية»، وثلاثيته «1952 و1954و 1981»، وغيرها من الروايات، وكانت مقالات جميل تطالعنا بين الحين والآخر فى صحف مثل «الأهالى»، ليدلى فيها برأيه حول مجموعة قصصية، أو رواية، ولكنه انقطع كذلك عن هذه المقالات. أتمنى ألا يكون قد أصابه الإحباط والفتور فى هذه السنوات، ونأمل أن يعود لنا عبر مساهماته النقدية والإبداعية الجميلة.