فى عام 1957 صدر كتاب للناقد الكبير الراحل الدكتور محمد مندور عنوانه «جولة فى العالم الاشتراكى»، وجاء تقديم الكتاب فى أول مايو، وكان التوقيع على هذه المقدمة لجماعة اسمها «جماعة البعث الجديد»، ولا توجد هناك معلومات كافية حول هذه الجماعة، إذ كان كثير من الأدباء والمثقفين والساسة يؤلفون جماعات مستقلة -فى تلك الفترة- ويطلقون عليها مسميات خاصة جدا، مسميات تنطوى على حماس ما، لمجموعة أفكار يعتنقها أعضاء هذه الجماعة. فى ذلك الوقت نشأت جماعة اسمها «جماعة النهر الخالد»، وكان من قياداتها الدكتور مصطفى محمود، كذلك «الجماعة الأدبية»، وكان منها فاروق خورشيد وعز الدين إسماعيل، كذلك جماعة «الشعراء الزاحفون»، وكان من بينها كمال عمار ومحمود أمين العالم وغيرهم، وفى ظل هذا اليسر من نشأة الجمعيات والجماعات الثقافية جاءت «جماعة البعث الجديد»، التى أصدرت هذا الكتيب الصغير. وتتميز هذه الفترة بالتحيد، أى من عام 1955 حتى نهاية عام 1958 بالانفتاح على كل التيارات الثقافية والفكرية التقدمية، وكان الشيوعيون على رأس هذه التيارات فى مواجهة التيارات الرجعية المنغلقة والاستبدادية، وكانت جماعة الإخوان المسلمين على رأس هؤلاء، وإن كانت قياداتهم المحلية كلها فى المعتقلات، ولكن قياداتهم الخارجية، وبعضهم هربوا إلى المملكة العربية السعودية، وراحوا يعيدون تشكيل شتات الجماعة مرة أخرى بعدما مزقتها الأحداث فى مصر، بعد أن احتضنتهم ووفّرت لهم كل وسائل الدفاع عن أنفسهم. وكان الدكتور محمد مندور أحد النقاد والمفكرين الذين وجدوا احتراما شديدا من ثورة يوليو، على عكس ما يزعم البعض، تعليقًا على بعض خلافه مع يوسف السباعى، وكانت العلاقة بينهما غير حميمة، حيث كان مندور قد كتب كتابة سلبية عن روايته «طريق العودة»، واعتبرها السباعى ترصدا له، وهجوما عليه. وبعيدا عن هذا الخلاف، كان مندور مكرمًا ومحتفًى به من سلطة يوليو، وكانوا يستعينون بعلمه وثقافته فى مناحٍ شتى فى العمل الفكرى والثقافى والسياسى كذلك، ولا يفوتنا أنه كان رئيس تحرير مجلة «الشرق»، التى كانت تمثّل همزة وصل قوية بين مصر والاتحاد السوفييتى، ولهذا دعته حكومتا الاتحاد السوفييتى ورومانيا بالاشتراك مع اتحاد الأدباء فى كل منهما لزيارة معالمهما، وكان الوفد المصرى يتكون من الأدباء المصريين محمد سعيد العريان، والدكتور شوقى ضيف، والأديب الصحفى عبد الرحمن الشرقاوى، وكان مندور قد سبقهم جميعا إلى هناك، وبدأت الرحلة الجماعية فى 13 سبتمبر 1956 بزيارة بوخارست، حيث قضى الوفد أسبوعين كاملين فى رحاب مسارح ومتاحف ومعاهد العلم ومراكز الثقافة فى رومانيا، وفى 2 أكتوبر غادر الوفد بوخارست إلى موسكو، حتى 29 أكتوبر، حيث تعرّف الوفد على كل المجالات المختلفة للثقافة الروسية، وزار عدة مناطق حيوية فى التحاد السوفييتى مثل طشقند، وسمرقند، وبخارى، وخوارزم، وكان الوفد شغوفا جدا بزيارة هذه المناطق، التى ظهر فيها عدد ضخم من كبار العلماء والأدباء الذين أضافوا الكثير إلى التراث العربى مثل: ابن سينا والفارابى والبيرونى والخوارزمى، وهذا ما تحدث عنه مندور فى كتابه المهجور والمستبعد وربما المجهول كذلك، ونتمنى فى ذكرى رحيله الخمسين التى تطل علينا فى هذا الشهر، حيث كان رحيله فى 19 مايو 1965، أن يخرج إلى النور. وهناك مصادر أساسية للبحث عن مندور، وأول هذه المصادر كتاب الناقد الراحل الكبير والمستبعَد من دائرة الاهتمام المؤسسى فؤاد دوارة، وهذا الكتاب هو «محمد مندور.. شيخ النقاد»، وكان هذا الكتاب قد بدأ بحوار طويل أجراه دوارة مع د.مندور، وضمَّنه فى ما بعد كتابه المهم «عشرة أدباء يتحدثون». ثم كتابات رفيقه الذى التقى به فى باريس، عندما ذهب ليحصل على دراسته العليا، وكتب عن اللقاء الذى حدث بينهما هناك، وقاده مندور إلى متاحف ومراكز باريس الثقافية، أى أنه عرّفه على باريس الثقافية من أوسع أبوابها، حيث كان مندور طالبًا مزمنًا للدراسات العليا، وقضى وقتا طويلا دون الحصول على الدكتوراه، لأنه انشغل بما هو أهم وأكثر تأثيرا، ومفردة «انشغل» لا تعبّر تماما عما حدث لمندور فى باريس، لكن الأصح أن نقول: انجذب أو ذُهل واندهش وانتبه واستغرقته باريس وثقافتها وتاريخها، فضاعت منه شهادة الدكتوراه، وكتب لويس عوض هذا المعنى فى كتابه «مذكرات طالب بعثة»، وبعد رحيل مندور، كتب عوض مقالين وافيين عنه، ووصفه بالإصلاحى الكبير. ثم جاءت دراسات للدكتور جابر عصفور، كان قد نشرها فى مجلة «الكاتب» المصرية، عندما كان صلاح عبد الصبور رئيسًا لتحريرها فى أواسط السبعينيات من القرن الماضى، ثم ضمها إلى كتابه المهم «قراءات فى النقد الأدبى»، وجاء عنوان الدراسة «محمد مندور ناقدًا»، وجدير بالذكر أن جابر عصفور تلميذ مباشر لمحمد مندور. وهناك عديد من الدراسات القليلة عن مندور، التى لم نستطع الحصول عليها، وما عدا ذلك فمعظم الكتابات التى وردت فى ما بعد، اعتمدت على المصدرين الأوَّلين بشكل أساسى، وأحيانا تم نقل بعض أجزاء منها دون التنويه الواجب والدقيق إلى هذين المصدرين. وربما يكون كتاب الدكتور محمد برّادة، وهو رسالة علمية، ذهب للبحث فى النظرية التقدية عند محمد مندور، وأعتقد أن برادة كان قد تتلمذ على محاضرات مندور، عندما كان برادة يدرس فى القاهرة. وبالطبع ما زالت هناك مخبوءات ومجهولات للدكتور محمد مندور، نتمنى ظهورها فى عام الذكرى الخمسين، حتى تستفيد الأجيال الجديدة بعلمه الغزير، وبوصلته النقدية والفكرية الصائبة.