على الجدران نقوش وزخارف. مربعات تتداخل لتعطى نجومًا مثمنة تقف رؤوسها المدببة وتصطف كأسنان التروس، ورسم يتكرر لفتى غض يمتطى فرسًا بلا سرج، ويشد القوس ليصيد الظباء والنعام، فتفر أمامه وحواليه بينما يشى وجهه بأنه لا يهتم بمتابعة الطرائد. تفرست فى عينيه مليًّا، فبدا لى أنهما كانتا تنظران بشغف ناحية الفتيات الجميلات المرسومات على الحائط المقابل، اللواتى كن يملأن الجرار من النبع، ويتثنين بأجسادهن العارية التى تحيطها غلالات حريرية شفيفة. كان الداخل إلى الباحة يرى نافورة مصنوعة من الفسيفساء. لم يعد الماء ينطلق من صنابيرها كعادته فى ما مضى. أمامها مصطبة من الرخام الكالح اللون، لا شك أن الحشايا التى كانت تتراصّ عليها لكى يجلس سيد الدار مزهوًّا بين مؤنساته الحسناوات لم يعد لها الآن أى أثر. أغمضت عينى فانداحت موسيقى شجية غريبة آتية من مكمن غامض بعيد. أخذت الصورة تتنامى فى رأسى وتتكامل تفاصيلها حتى إننى عندما فتحت عينىّ، أقسم إننى رأيت الستائر المذهبة والطنافس البالية، وقد عاد إليها رونقها وبهاؤها القديم، حتى الرسوم التى كانت على الحائط دب فيها هى الأخرى سحر خفى، فتحولت إلى حال غير حالها. كنت فى القاعة وحدى، يتناهى إلى سمعى صوت وشوشات وضحكات لاهية، وطرطشات مياه تتداخل مع الموسيقى الشجية الغامضة التى ما زلت أسمع صوتها الخافت الحبيس، فلا يطغى عليها سوى هدير السيارات التى تنطلق فى الشوارع البعيدة مطلقة أبواقها المكتومة المتنافرة الأصوات. أفقت إلى نفسى أهرول فى طرقات القصر الخالية، وأقتحم القاعات المغلقة الأبواب واحدة إثر أخرى. كأننى سأباغت أصحاب الدار الذين تصل إلى أسماعى أصوات موسيقاهم الشجية السجينة، ولهوهم اللطيف، وضحكهم، ورشاش الماء فى نافوراتهم. كنت أسرع الخطو كلما أحسست باقترابى من مصدر الصوت، لكنه كان يختفى بغتة لكى ينطلق بعدها من اتجاه جديد، فأستدير حائرًا لترتفع الضحكات كأنها تسخر من محاولة اللحاق. عندما تعبت وأصابنى اليأس كان موعد إغلاق القصر قد حان. كان يؤلمنى أننى لم أكن أبغى أن أعكر صفوهم. كنت أريد فقط أن أراهم وأشاركهم غناءهم ولهوهم. خرجت محنيا من الباب الواسع العظيم الذى تملأ ضفتيه النقوش والزخارف. رشقنى حارس القصر بنظرة فاحصة عندما لمح اضطرابى وحزنى الجم. كنت آخر من خرج من زوار المتحف فى ذلك النهار الشتوى الرمادى. أوشكت أن أساله عن مصدر الأصوات التى جرجرتنى خلفها لساعات طويلة عابثة بعقلى ومشاعرى. لكننى تراجعت وآثرت الصمت والسلامة، وانطلقت فى طريقى كى لا يظن بى الجنون. هذه قصة قصيرة كتبتها بعد زيارة قديمة قمت بها لقصر المسافر خانة الذى عشقته منذ النظرة الأولى، رغم أنه لم يكن يحتوى على تلك المشاهد الجدارية التى وصفتها، ولم أنشرها حتى بعد احتراقه المأساوى فى أخريات تسعينيات القرن الماضى بين أطنان القمامة التى أحطناه بها من كل جانب. اليوم شعرت بالرغبة فى نشرها بعد أن التهمت البلدوزرات المتوحشة ما تبقى من أطلال مدينة رومانية أثرية سكندرية، تحت سمع وبصر وزارة الآثار، ليقيم الجناة برجًا أسمنتيا قبيحًا مكانها. يبدو أن أطنان القمامة ما زالت تحيط بكل شىء جميل فى حياتنا من كل جانب.