هذا كتاب شديد الصدق والدفء والحميمية، يُقرأ فى جلسة واحدة ممتعة، لكنه سيبقى معك طويلا مقترنا بتجربة إنسانية خاصة ومتفردة، ليس لدينا الكثير من تلك الكتب التى تحكى عن العلاقات الإنسانية داخل الأسرة المصرية، كل عائلة عالم مغلق على حياتها، لا نعرف بالضبط كيف اختارت كل أم طريقة التعامل مع أولادها، ومن قبيل تحصيل الحاصل أن يبدو كل طرف أمام الآخر فى أكمل صورة. فى أوروبا والدول المتقدمة تتحول العلاقات داخل الأسرة وخارجها إلى حوار مستمر، أما عندنا فمن النادر أن تتحول علاقة الأبوة أو الأمومة إلى صداقة، إلى فضفضة على الورق، تهدى الذات والآخر حكايات للتعلم فى اتجاهين، وليس فى اتجاه واحد، وتهدينا معنى الاستقلالية واحترام الآخر، فقط لمن أراد أن يعترف بأنه يعيش فى عصر مختلف جدا. «فرحة عمرى».. الكتاب الصادر عن دار سلامة لمؤلفته المذيعة والصحفية رجاء إبراهيم هو ببساطة حكاية أم مع ابنتها الوحيدة، منذ أن كانت الابنة حلمًا ثم جنينًا فى علم الغيب، وصولًا إلى لحظات انتظار عودتها قريبًا من دراستها فى باريس، حكاية حب وصداقة واحترام وتجربة وثقة كتبتها رجاء بحساسية مدهشة، لا يمكن أن تتوقف قبل أن تنتهى الصفحات المرصعة برسوم طفولية آسرة للفنان مصطفى سليمان، لتصافحك أخيرًا صور الابنة فرح مع أمها، مراسلاتهما، مذكرات كتبتها الأم باحتياجات الابنة، لحظات الطفولة والمراهقة، ثم تكتشف أخيرًا أن رجاء قررت أن تكتشف نفسها من خلال فرح. سحر هذا الكتاب فى كلمتين: البساطة والصدق، وأهميته فى أنه يقدم خبرة طازجة وناضجة خلاصتها أن الأبناء كائنات مستقلة، تستحق الحرية بقدر جدارتها بالرعاية، الحب الإيجابى هو الذى يبنى ويعلّم، وليس الذى يقيد ويخنق، أولادكم أبناء عصرهم وزمنهم، تعلمونهم بقدر ما تتعلمون منهم، «فرحة عمرى» عن علاقة صداقة بين «رجاء إبراهيم وتعمل أمًّا، وفرح وائل ووظيفتها ابنة وصديقة». حكت رجاء عن كل شىء، وانتهزت الفرصة لتحكى أيضًا عن نفسها، وعن أمها وأبيها وأحلامها ومخاوفها، لم يكن هناك كتالوج لتسير عليه فى تربية طفلتها، استخدمت الفطرة فى التعامل مع هذا الكائن الجديد، استعادت معها ألعاب الطفولة وقلق المراهقة، تركت لها حرية الاختيار والتجربة وتحمل المسؤولية مبكرًا من خلال فرق الكشافة، غذتها بالموسيقى والفن والقراءة «مافيش سؤال دون جواب، كل أسئلتها محل احترام من أول هوه البيبى بييجى إزاى حتى هوه إحنا ليه ماعندناش عربية»، الدرس الأول هو المساواة بين الناس، واحترام الاختلاف، لم تكن تجربة الأم مع ابنتها مثالية قط، كانت هناك أخطاء، لكنها قررت أن لا تمتلك ابنتها، لم تعاملها كأنثى وإنما كإنسان: «من حقها أن تختار، وتتحمل نتيجة اختيارها، أنا وأبوها مجرد عوامل مساعدة، بلغة الكيمياء، كنت ألعب معها دور الكاتاليست catalyst». وددت لو نقلت إليكم صفحات كاملة من حكايات طريفة وجميلة ترويها أم عن ابنتها بصراحة وصدق، لكن هذه الفقرة ربما تعطيكم مفتاح الكتاب الشائق، وهى تكشف فى الوقت نفسه عن مشروع أديبة حررت ابنتها موهبتها: «أنا الأم التى لم تكن أما مثالية فى تربيتها، بل مثل الغالبية العظمى من الأمهات كنت أزعّق وأعلّى صوتى، وأهدد بالحرمان من المصروف وأسخر وألوم.. أنا المرأة العاملة التى لم تضح بعملها يومًا من أجل تربية صغيرتها.. أنا الزوجة التى فشلت فى الإبقاء على لمّ شمل الأسرة الصغيرة حتى النهاية.. أنا الإنسانة المتحررة التى اقترفت أخطاءً فادحة أمام ابنتها المراهقة دون وعى.. ولكنى معها كنت طوال الوقت ودائمًا حقيقية وحقيقية جدا.. لم أخجل أن أعلن أمامها رعبى من الماء، لكنى دفعتها لتعلم السباحة! لم أصنع لها خيالات وأوهام عن إنجازاتى اللى ماحصلتش، لكنى كنت أرضعها حب التميّز! لم أفبرك ردودا لأسئلتها المحرجة، لكنى كنت أشاركها البحث عن إجابات! كنت أتقبّل نقدها اللاذع وأعلّمها كيف تعبر عن رأيها بحب ورحمة! لم أمتلكها لأنها ابنتى الوحيدة، لكنى علّمتها فن التحليق بعيدًا عنى! ربما ما اجتهدت فيه بدأب شديد أن لا أضعها فى خيارات أو مقارنات صعبة ولا إنسانية.. وربما ما تعمّدته حقا أن لا تفقد ثقتها بشىء نشأت عليه.. احترمتها وهى رضيعة كما احترمتها وهى صبية ثم مراهقة وشابة. لم أنظر إليها أبدًا نظرة الدُّمية التى جاءت لتسليتى. أو العطيّة التى وهبت إياها لتعوّضنى حرمانًا ما. لم أخنقها بحبى. كما لم أتجاهل غيرتها على. حاولت جاهدةً أن لا أقف حائلًا بينها وبين الدنيا الواسعة. وعندما كان يستبد بى القلق عليها أردد: (الله خير حافظًا)». حكاية رجاء وفرح المدهشة تجربة حب وبحث عن التوافق واكتشاف السعادة، تجربة تعلم مزدوجة، فضفضة عن فن الحياة والعلاقة مع الآخر، ويا لها من مفارقة طريفة: تهدى الأم ابنتها الحياة، فتمنح الابنة أمها كتابها الأول الممتع.. بصْرة.