تتفاقم الأوضاع فى ليبيا فى الفترة الأخيرة وتتزايد وتيرة العنف داخل البلاد ويصعب تقديم تحديد مختصر للقوى الفاعلة على الأرض، لكثرتها، حيث تعدَّدت الميليشيات بعد انتهاء دور حلف الناتو فى التخلُّص من القذافى، بما كانت تحويه خزائن أسراره من فضائح لقادة أوروبيين من ناحية، وسياسيين وأجهزة قانونية وأمنية أوروبية وأمريكية من ناحية أخرى، وبعد تحقيق هذه الغاية لم يشغل بال حلف الناتو وحكومات دوله مصير الدولة الليبية ولا شعبها، رغم أنهم يعرفون أن عدم استكمالهم للمهمة يعنى دخول ليبيا فى نفق مظلم، ونتيجة الفوضى العارمة الناتجة عن استيلاء الميليشيات، على تعدّد أهدافها، على كميات هائلة من السلاح من مخازن جيش القذافى الوهمى، منح المؤتمر الوطنى العام الشرعية لعدد كبير من الميليشيات المسلحة بعد نهاية الحرب مع قوات القذافى، إما تواطؤ لحماية مصالح وإما تغليب أهداف سياسية وأيديولوجية من البعض وبنية حسنة من البعض ظنًّا بأن هذا التصرُّف الأخرق يمكن أن يساعد على استتباب أمن البلاد، وبطبيعة الحال فإن هذه الميليشيات وقياداتها تشبَّثت بهذا الوضع، انطلاقًا من أهدافها السياسية، وتحديدًا قوى الإسلام السياسى، وبالمثل تمسَّكت الميليشيات غير السياسية بامتيازاتها التى تحقَّقت بقوة السلاح، وفى مردود عكسى فى مرحلة تالية، فإن القوى السياسية المتصارعة فى ليبيا وجدت من ظاهرة الميليشيات فرصة لتوظيفها كأذرع عسكرية فى تناحرها الداخلى. أدَّت الأوضاع السابقة إلى إعاقة بناء جيش نظامى -أفقده القذافى أساسًا نظاميته وقوته- بسبب عدم توافق القوى السياسية المتصارعة فى ليبيا، لأن إقامة مؤسسة عسكرية وطنية يقتصر عليها احتكار السلاح، سوف يؤدّى بالضرورة إلى اختفاء هذه الميليشيات، ويترتب على هذا أن الفرقاء السياسيين الخارجين على الشرعية سيفقدون مقومات القوة فى مجال صراع انتهكت فيه قواعد اللعبة الديمقراطية بعد أن أُجريت انتخابات نزيهة تحت إشراف ورقابة دولية لاقت اعترافًا تامًّا بسلامتها من كل المؤسسات الدولية والإقليمية المعنية، وقد جاءت نتائج هذه الانتخابات لتعبّر عن إرادة الشعب الليبى التى لم تتوافق مع تنظيمات الإسلام السياسى، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، وبالتالى الولاياتالمتحدةالأمريكية الداعم الدولى الأساسى للإخوان، وخلفها تركيا وقطر، لهذا عطَّلت الولاياتالمتحدة عمدًا فى تناقض صارخ مع مبادئها المعلنة، تسليح الجيش الليبى الوطنى بقيادة حفتر، الذى يمثّل الشرعية والحكومة المعترف بها دوليًّا، بدعوى منع تصدير السلاح عن القوى المتصارعة، فى محاولة مكشوفة للزجّ بالإخوان المسلمين فى حكومة ائتلاف، حفاظًا على بقائهم وحشرهم فى السلطة، فى الوقت الذى يتدفَّق فيه السلاح خلسة إلى الميليشيات غير الشرعية عن طريق تركيا وقطر، كما قامت الولاياتالمتحدة بدسّ ذراع لتنظيم داعش فى ليبيا، إمعانًا فى خلق فوضى تمكنها من تمرير أهدافها فى إضعاف الحكومة الشرعية وخلق بؤرة اضطراب لمصر والشمال الإفريقى. أمام هذه التحديات قامت الشرعية الليبية ممثلة فى البرلمان المنتخب والحكومة بالعمل على تعزيز الجيش الليبى الذى بدأ بنواة من الضباط والأفراد الوطنيين الذين تطوَّعوا انحيازًا إلى الشرعية، حفاظًا على أمن البلاد وتماسكها وهيبتها، وبدأ هذا الجيش الوليد يحقِّق رغم الظروف الصعبة تماسكًا، وتدريجيًّا أصبح عنصرًا فاعلاً على الأرض فى المعادلة الليبية، تقابله فى الناحية الأخرى من المشهد قوات ما يسمى «فجر ليبيا»، كقوة رئيسية من بين عناصر الإسلام السياسى المدعومة من قبل قوى خارجية، لخلخلة الوضع السياسى وفرض أجندة خارجية أو إبقاء حالة الفوضى والتشرذم وتحويلها بمرور الوقت إلى وضع مزمن، وأمام هذا الظرف المعقد يصبح من الضرورى مدّ يد العون للجيش الليبى الذى يحتاج فى الوقت الحالى إلى مساندة مؤقتة، كى يتمكَّن فى بنغازى من تصفية آخر جيب من عناصر إرهابية تكمن فى شرق المدينة فى منطقة شارع الليثى، حيث سيؤدّى هذا إلى إحداث نقلة كبيرة فى موقف قوات حفتر، ويجعل منها رقمًا فى معادلة القوة، لتميل الكفّة لصالحه، وهى النقلة التى ستجعل الوزن السياسى الفعلى للحكومة الشرعية أكثر ثقلًا، مما يساعد على بداية استعادة الشرعية لمكانتها المستحقة، أولًا: على الأرض، ومن ثَمَّ فى الفضاء السياسى داخليًّا ودوليًّا، وثانيًا: تمكنها من الاتساع فى بسط السيطرة تدريجيًّا فى كل أرجاء الدولة كقوة نالت شرعية غير مطعون على سلامتها. الحكومة الشرعية وجيشها الشرعى هما الضمانة الوحيدة لكى يصبح العمق الاستراتيجى آمنًا فى غرب مصر، إذ تمتد الحدود المشتركة بين البلدين إلى نحو ألفَى كيلومتر، حيث تواجه مصر الآن تهديدًا مستمرًّا من عناصر الإسلام السياسى المحتشدة فى ليبيا من أماكن كثيرة من العالم تعمل على تصدير الإرهاب سلاحًا وأفرادًا إلى الداخل المصرى. لهذا ولكل ما تقدَّم من معطيات، أرى أن تقوم مصر بتقديم الدعم العسكرى المادى المباشر فى عملية نوعية بالتنسيق مع الجيش الليبى، للقضاء على البؤرة الإرهابية المتبقية فى شرق مدينة بنغازى، على أن تكون هذه العملية محددة بتوقيت تلغرافى، تترك بعدها الساحة للقوات الشرعية، بحيث لا يترتب على هذه العملية بقاء جندى واحد فى الداخل الليبى.