رغم أنه التحق بمجلة «صباح الخير» بعد إنشائها بعامين كمحرر صحفى يكتب التحقيقات والموضوعات الصحفية اللامعة، فإنه لم يلمع كناقد سينمائى إلا بعد عدة سنوات، وظل يعمل كمحرر يكتب فى مجالات عديدة لسنوات طويلة. وكانت المجلة فى ذلك الوقت، أقصد نهايات الخمسينيات فى القرن الماضى، ذات حسب ونسب وصيت وجولات ومغامرات وحضور وجرأة وشجاعة وابتكار، إنه كان زمن صحافة «صباح الخير» بامتياز، وكانت تضم فى إهابها مجموعة من الصحفيين الفنانين الفدائيين، كانت تستقطب الشعراء مثل صلاح جاهين وأحمد عبد المعطى حجازى وفؤاد قاعود، ورسامى الكاريكاتير مثل جورج البهجورى وحجازى وبهجت عثمان ورجائى والليثى وغيرهم، ومحللين سياسيين ونقاد أدب وثقافة وتاريخ مثل محمد عودة وأحمد عباس صالح ومحمود أمين العالم، وكتّاب قصة ورواية مثل مصطفى محمود ويوسف إدريس ومحمد صدقى وعباس الأسوانى وغيرهم، ومع وقبل كل هؤلاء كتيبة الصحفيين التى تعطى المجلة نكهة خاصة، مثل لويس جريس ورؤوف توفيق. ورغم أن رؤوف توفيق كان يكتب مثل كل المحررين موضوعات صحفية وتحقيقات مثيرة، فإن نقده الفنى والسينمائى بدأ يتسرب رويدا رويدا، حتى أصبح من أكبر نقاد السينما فى مصر، واستطاع هو وأبناء جيله الكبار مثل سمير فريد وكمال رمزى وسامى السلامونى وغيرهم، أن يصنعوا نقدا سينمائيا حافلا بالمفاجآت والأفكار الخلاقة والصائبة. ومن بين موضوعات رؤوف توفيق الصحفية العامة، هذا التحقيق الذى نشرته المجلة فى 18 أبريل عام 1963، وكان عنوانه «هل يغفر الله ذنوب المدرسين؟!»، وكان الموضوع بمثابة تعليق مطول، أو تغطية شاملة لندوة عقدت فى محافظة المنيا، حول دور المدرسين فى المجتمع، وكان المدرسون يشيدون فيها بأدوارهم التربوية العظيمة التى يقومون بها، وينقل لنا توفيق آراء هؤلاء المدرسين وتصوراتهم عن أنفسهم، إذ يقول أحدهم: «أنا أؤدى أخطر مهمة فى الدولة وهى تعليم الجيل الجديد.. لكن مع كده مافيش تقدير مادى.. المدرسين مظلومين جدا...»، ويقول مدير المنطقة التعليمية ليرد على هذا المدرس: «أنا من غير شك كمعلم اشتغلت 36 سنة فى التدريس.. أشعر بأن التقدير المعنوى الذى كسبته أكثر من التقدير المادى مئة مرة.. يكفى أن أحد الوزراء الآن كان تلميذى.. وعندما زارنا فى المنيا رفض أن يتقدمنى فى السير أمامى.. وأصرّ على أن أتقدمه أنا وابتسم وقال لى: أنت معلمى». ويستطرد توفيق فى عرض الآراء والأفكار المختلفة، ثم يستعرض مشكلات المدرسين ومعاناتهم، ويقترح حلولا ما زالت صالحة للتطبيق حتى الآن، فرغم أن هذه الأفكار ولدت فى زمن مختلف، وظروف مغايرة، فإنها أفكار تكاد تتواصل مع العصر الحديث، وهذا لأن مرسلها كان مخلصا وجادا فى قراءة الأحداث بشكل حيوى وفاعل. وفى العدد ذاته سنلاحظ أن رؤوف توفيق كتب تعليقا فنيا تحت عمود مبتكر، ولأول مرة عنوانه «من مقاعد المتفرجين»، وأعتقد أن هذه البداية التى جاءت على استحياء، وشبه منزوية، كانت قوية بشكل لافت، إذ إنها تعلّق على البطولة المطلقة لاستحواذ عبد الحليم حافظ على سوق الغناء، وعن الغياب شبه التام لمنافسيه، رغم أن الجيل كان يضم فنانين آخرين مثل ماهر العطار ومحرم فؤاد وعبد اللطيف التلبانى، فإن عبد الحليم هو الوحيد الذى يكتسح الساحة دون أدنى منافسة له، ويعلق توفيق فى نهاية ملاحظته: «إننا فى حاجة إلى مطرب جديد.. يقدم لنا لونا مختلفا فى الغناء.. وينافس عبد الحليم». ومنذ ذلك التعليق الذى كتبه توفيق فى مجلته التى وصلت إليه رئاسة تحريرها فى إحدى محطاتها، وهو لم يتوقف عن النقد السينمائى الجاد والذى يشكّل مدرسة خاصة فى قراءة الفيلم، ورغم أنه كتب للسينما سيناريوهات استثنائية وفريدة مثل «زوجة رجل مهم»، و«مستر كاراتيه» على سبيل المثال، فإنه ظل مخلصا للنقد السينمائى كملاذه الأول، ومدرسته الأساسية. وفى عام 1974 قدم كتابه الأول «السينما عندما تقول لا»، وقدم فيه رؤية تكاد تكون خاصة جدا عن سينما التمرد فى العالم، ويكتب فى مقدمة الكتاب: «نحن أبناء هذا العصر، ولدنا لنفقد براءتنا وطهرنا ونقاءنا منذ لحظة انقطاع الحبل السرى.. نكتشف كل يوم.. الكذب والغش.. والظلم والإرهاب.. ونتعلم الخوف والجبن والصمت المهين.. معذبون غالبا من بشاعة بعض النظم، وسلاحها فى البطش والإرهاب والسيطرة، وتحطيم أغلى ما يملكه الإنسان وهو العقل.. إحساس مرير ومؤلم.. وواقع أكثر قسوة يجتاح العالم كله.. وهذا الواقع التقطته السينما العالمية، من خلال مفكريها وفنانيها، لتقيم المحاكمات.. وتعلن الاتهام.. وترفع شعار الرفض والاحتجاج». والكتاب يغوص عميقا فى سينما التمرد والاحتجاج فى العالم، ولا تتوقف قراءة توفيق عند التقنيات وطرق المعالجات الفنية، بل يتعدى الأمر ليصل إلى حد محاكمات سياسية واجتماعية بعقل منتبه، وتحليلات عميقة. ومن كتبه الأخرى الجميلة «السينما ما زالت تقول: لا» وهو بمثابة الاستكمال أو الاستطراد الطبيعى لكتابه الأول، ويقول فى مقدمة هذا الكتاب بأنه ظل يقاوم إغراء إصدار كتاب آخر، عاقدا الأمل على تغيير العالم، إلا أنه لم يجد جدوى من عدم إصداره لكتاب ينطوى على استطراد على الجملة الاعتراضية ذاتها، ولكن فى زمن آخر. كما أنه أصدر سلسلة كتب نقدية أخرى، ومن أجملها -فى تصورى- كتاب «سينما الحب»، وهو قراءات وتحليلات لسينما العالم، ولكن السينما العاشقة والرقيقة إن صحّ التعبير. وأعتقد أن هذه الكتب التى أصدرها رؤوف توفيق، ما هى إلا مختارات من كتابات كثيرة، ما زالت تنتظر الجمع والتصنيف والنشر، فما قدمه رؤوف توفيق يصل إلى بانوراما فنية وثقافية واجتماعية شاملة وعميقة لواقعنا العام على مدى خمسين سنة.