لم يسلم الكاتب والأديب العظيم نجيب محفوظ، من النقد والمشاكسات الحقيقية والوهمية طوال حياته، منذ بداية ذيوع اسمه على استحياء، ثم انتشار ذلك الاسم بقوة ورسوخه، حتى حصوله على جائزة «نوبل»، وظلّت هذه المشاكسات التى وصلت إلى حدّ الأذى والاغتيال، تلاحقه حتى بعد رحيله، وكان بعض هذه المناوشات نوعًا من الغيرة القاتلة، التى دفعت البعض لخلق خيالات كثيرة، ووضع البعض نجيب محفوظ، وكل كتاباته ومواقفه والأفلام المقتبسة من رواياته، موضعًا للمحاكمة لا للمناقشة. وبالتالى كان البعض يعدّون عليه أنفاسه، ويترقبون أى فعل شخصى أو إبداعى أو سياسى أو سينمائى يصدر عنه، لتدوير آلة الشر المقصودة والمجانية، وهذا هو دومًا مصير مَن يعملون ولا يستطيع الواحد منهم أن يتوقَّف، لأن التوقُّف عن الإبداع والحركة بالنسبة إلى نجيب محفوظ ومَن شابهه، هو توقف عن التنفس، فمثلما لا يستطيع الإنسان أن يوقف آلة التنفس، فالكاتب أو المبدع -كذلك- لا يستطيع أن يحيا، دون إنتاج ثقافى وفكرى وفنى وإبداعى. وكما كان الرجل يحظى باهتمامات نقدية إيجابية، كان يبتلى بافتراءات توازيها تمامًا، وكان يشارك فى هذه الافتراءات شباب، كما كان يشارك فيها شيوخ، والتقى بعض اليمين المتطرف مع بعض اليسار المتطرف فى رجم نجيب محفوظ باتهامات مختلفة، وكان نجيب نفسه يتغاضى عن بعضها، ولكنه لم يكن قادرًا على التغاضى عن بعضها الآخر. ففى 13 أبريل عام 1953، أى قبل ذيوع اسمه بشكل كبير، وقبل أن يتعرّف الناس على ثلاثيته «بين القصرين»، والتى نشرها فى مجلة «الرسالة الجديدة» مسلسلة، وبرسوم فخيمة للفنان الحسين فوزى، وذلك فى عام 1954، كتب الكاتب الشاب فتحى غانم فى زاويته «أدب»، والتى كانت تنشرها له مجلة «روزاليوسف»، ليخبرنا بأن نجيب محفوظ كان غاضبًا من أن أحد النقاد كتب أنه لا يكتب إلا لطبقته «الغنية»، وأعتقد أنه كان يقصد الدكتور عبد العظيم أنيس، الذى كتب فى صحيفة «المصرى» عن رواية «القاهرة الجديدة»، والتى كانت قد صدرت لها طبعة ثانية آنذاك تحت عنوان آخر هو «فضيحة فى القاهرة»، ولاحظ أنيس أن نجيب محفوظ يستنطق بعض الشخصيات بلسانه هو، وليس لسان الشخصيات ذاتها، وقال أن نجيب محفوظ يسقط هواجسه «البورجوازية الصغيرة» على شخصيات وأحداث رواياته كلها، رغم أن بعض شخصيات وأحداث هذه الروايات من المفترض أن تكون ثورية، مثل شخصية «علِى طه» اليسارية فى رواية «القاهرة الجديدة»، ومثل أحداث ثورة 1935 المصرية، والتى كان محورها الأساسى المطالبة باستعادة دستور 1923. أما النقطة الثانية التى تطرق إليها عبد العظيم أنيس، فتتعلق باللغة التى كان يكتب بها نجيب محفوظ نفسه، وهى لا تناسب الشخصيات العمالية أو البسيطة التى يطرحها فى رواياته، وفى مواجهة كتابات نجيب محفوظ، أثنى أنيس على كاتب شاب آخر، وكان هذا الكاتب هو نجم اليسار القادم فى ذلك الوقت، وهو عبد الرحمن الشرقاوى، وروايته «الأرض»، والتى لاقت استقبالًا حافلًا من كل أبناء اليسار فى ذلك الوقت، ودارت معركة حامية الوطيس فى أواسط خمسينيات القرن الماضى، وعلى أساسها انبنت كل أفكار الواقعية الجديدة فى الأدب والنقد فى ذلك الوقت. وفى مقال فتحى غانم، والذى انحاز فيه بشكل مهذّب إلى خصوم أو منتقدى نجيب محفوظ، أوضح غانم أن محفوظ كان مندهشًا ومذهولًا بوصفه «كاتب الأغنياء»، لأنه غنى، وأوضح أن كتاباته لا تستشرف المستقبل بقدر ما كانت تصوّر الواقع بكل مآسيه، حتى يثور الناس على هذا الواقع ويغيّروه، وأكرر أن هذا الكلام كان منشورًا فى عام 1953. ولم تصمت الأقلام عن مناوشة نجيب محفوظ، وكان من أكثر مناوشيه الدكتور لويس عوض، الذى لم يكتب عنه كثيرًا، ولكنه عندما كتب أطلق بضعة أفكار وملاحظات غريبة، وفى رأيى أن لويس عوض كان يقرأ أدبنا المصرى عمومًا وهو متأثّر بكل نصوص الغرب الروائية والشعرية، فهو لا يكتب عن أى نص روائى أو شعرى، إلا وطرح شبيهًا له فى آداب الغرب، وفى مقاله عن رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، التى صدرت فى مطلع الستينيات، والذى أطلق فيه كثيرًا من المشابهات، أثار قدرًا آخر من تحفظات كثيرين. ويعترف لويس عوض فى بداية مقاله عن «اللص والكلاب»، بأنه تردّد كثيرًا فى كتابة ما كتب، ويعترف ثانيًا بأنه لم يقرأ من ثلاثية نجيب سوى جزئها الأول فقط لاغير، رغم أنه المعنى بالنقد والإبداع، وهو لا يجد تفسيرًا لما حدث لنجيب محفوظ، والذى خرج من الظلمات المطلقة، إلى النور المطلق، فبعد أن كان مجهولًا ومهجورًا من القرّاء والنقاد على حد سواء، أصبح فى بؤرة اهتمام كبيرة من هذين الطرفين، وهذا فى حد ذاته ظاهرة استعصت على التفسير، ولذلك اقتصر لويس عوض على قراءة رواية «اللص والكلاب» فقط، بعيدًا عن محاولة الخوض فى ما لا يعرفه. وراح ليصف نجيب محفوظ بأنه كاتب لدود للواقعية، على غير ما يزعم النقاد، ومرة يصفه بأنه كاتب شديد الكلاسيكية، ومرة أخرى يصفه بأنه رومانسى، فهو رومانسى لأن بطله يحلم بالتغيير، وكلاسيكى لأن روايته مبنية على الشكل الكلاسيكى المحكم، وشخصياته مرسومة بدقة، ولكن نجيب محفوظ لم يدخل إلى أعماق شخصياته، ولكنه وصفها من الخارج، ويظل لويس عوض حتى نهاية مقاله، يطرح ثنائيات وتناقضات تثير التساؤلات حول عوض نفسه، وليس حول نجيب محفوظ، لدرجة أن لويس عوض، كتب مقالًا آخر ليردّ فيه على الآراء الكثيرة التى وردت إليه متحفظة على ما كتبه عن نجيب محفوظ، ورغم ذلك فلا يخلو ما كتب لويس عوض من حيرة وارتباك يخص قراءة عوض نفسه لنجيب محفوظ، الذى ما زال مدهشًا حتى الآن.