الحقيقة أننى أكتب هذا المقال بحروف متثاقلة، هو ليس من المقالات التى أحب كتابتها، إذ هو -وبكل بساطة- الرجل الذى أعتبره «أخويا الكبير»، أتفق معه أو أختلف ويبقى هو «أخويا الكبير»، وأظن أن هذا هو إحساس عدد ضخم من القضاة تجاه المستشار زكريا عبد العزيز. أتكلَّم عن رمز قضائى هو من أكبر الرموز التى عرفها القضاء فى تاريخه، أتكلم عن إنسان شريف يسكن فى حى من أحياء القاهرة العادية، ولم أره يوما يركب سيارة فارهة من ذوات الأربع، أو يدخل فى نزاع على مصالحه الشخصية من أراضٍ وأبعاديات وخلافه، إن كان يمتلك شيئا من كل هذا أصلا، سيرته العطرة كانت دوما ستظل فوق كل شبهة بمسافات طويلة. تمنَّيته نائبا عاما لمصر بما له من خبرة جنائية وشخصية وتجربة عريضة، لكنه قال لى بالحرف الواحد «أنا مش بتاع مناصب!»، وقت أن تسابق كثيرون على المناصب، حتى الإعارات التى نقبلها نحن، عادةً رفضها هو بإباء واعتزاز لا مثيل له بمنصبه القضائى المصرى. هو مِن أنجح رؤساء نادى قضاة مصر، وقد رأيته بعينى يقضى فى مقر النادى فى القاهرة ساعات الليل والنهار بأطول بكثير من الساعات التى كان يقضيها فى بيته ومع أولاده، كان خادما للجميع، لكنه وفى ذات الوقت هو الأسد الهصور الذى وقف شامخا فى وجه سلطة غاشمة، فهو الذى قَبِل التحدى عندما أردنا نحن فى الإسكندرية أن يتصدى هذا الرجل لحماية استقلال القضاء والإصرار على إصدار مشروع قانون السلطة القضائية النائم فى الأدراج أسير الوعود الكاذبة لعشرات السنوات، لم يتردد الرجل ولم يخذلنا أبدا، بل حمل القضية وحملنا معها بكل اقتدار وقوة ورجولة فكان شجاعا، فكان قائدا وزعيما وكان رجلا. أجمع القضاة على إعادة انتخابه بأغلبية لم يعرفها نادى قضاة مصر فى تاريخه، ليقولوا جميعا فى شأنه كلمة رجل واحد تبقى دوما علامة صارخة واضحة قوية مدوية تصدح بشهادة حق فى الرجل يستحقها، رغم ذلك يضرب الرجل مثلا أخلاقيا إنسانيا رائعا بأن امتنع عن الترشح بعد انتهاء مدته ليُفسح المجال لغيره، وكان فى إمكانه أن لا يفعل، بل إن الرجل له أفضال على العبد الفقير إلى الله مباشرة، آزرنى وساند ظهرى فى الأوقات الحالكة، وكنت من بَعْد الله فى حمايته هو شخصيا، وكيف أنسى ما فعله معى «أخويا الكبير» ومع كثيرين من زملائى، هو المستشار زكريا عبد العزيز الإنسان المصرى الجدع الذى تتكامل فى ملامح وجهه معالم شخصيته، وسمرة لونه التى تعكس جوهر الشخصية المصرية الأصيلة الخالصة، ولعل هذه الصفات المصرية العميقة هى التى يراد له أن يدفع ثمنها الآن. والآن، المطلوب منى أن أجمع اسمه مع لجنة الصلاحية فى جملة واحدة، أظن أن هذا أمر غير ممكن ولا تقبله ولا حتى قواعد اللغة العربية، خصوصا عندما يكون المجنى عليه هو مباحث أمن الدولة! الجهة التى هى وقبل 25 يناير سيدة مصر وتاج رأسها بما عليها ومن عليها من بشر وحجر، وتمتلك من التاريخ المجيد ما يستحق اعتذارا للمصريين لألف عام قادمة. عيون زهرة شبابنا التى فُقئت عمدا فى نية عامة مقصودة وكأنه توجه وسياسة، هؤلاء سماح سماح، ماذا أقول يا عالم؟! هى صورة عامة حزينة فى الحقيقة تمثل معضلة أخلاقية ضميرية بصرف النظر عن أى قوانين أو لجان أو وقائع بعينها، الصورة العامة التى تتساءل فى نبرة حزينة بعد ثورة، مَن يقتصّ ممن؟ مَن يصفى حسابه مع مَن؟ مَن يحصل على حقه مقارنة بمن يضيع حقه فى هذا البلد، وهو ميزان عام دقيق يحيط بمجتمعنا كله فى مرحلة لا تحتمل ولا تزال تشوبها الحساسية وإرهاصات التوتر، والتى تنفخ فى النار من تحت الرماد ما لا نريده لبلدنا. على كل حال هذا هو الرجل الذى عرفت وعاشرت، ولا أظن أن احترامى له واعتزازى به يمكن أن يهتز أبدا ولو للحظة واحدة، ولا أظن أن الرجل ينتظر منى أو من غيرى مدحا أو قدحا أو حتى كلمة شكر مهما كانت واجبة، وحسبه تاريخه الذى يتحدث عنه بأفضل مما يمكن لأى إنسان أن يفعل. سيادة المستشار الجليل زكريا عبد العزيز فقط أحببت أن أسجِّل لك كل آيات التقدير والاحترام، وقبل كل ذلك محبة قلبية حقيقية صادقة، وأدعو الله العلى القدير أن يكشف عنك وعنى وعن كل مصرى كل ضيق وحزن، وأن ييسِّر أولى الأمر لما هو أقْوَم، لا أريد أن يأتى يوم يقول فيه قلبى «كفاية علينا أن هذه الثورة قد كرمها الدستور، ماذا نريد أكثر من ذلك؟ هو إحنا هننهب؟!...