حرصت موجات الاذاعة على أن تنضم جميعها أثناء خطاب الرئيس وعلى أن تنضم أيضا كلما جاء ضيف إلى مصر لتصل الرسالة وهو أنه لا شئ في الدنيا يعلو على صوت هذا الحدث الجلل، كان هذا ممكنا في زمن الاعلام الأرضي قبل الانتشار الفضائي، كنت تستطيع ببساطة أن تُمسك بكل المنافذ وأن تمنع كل من يخرج عن الصف ليشعر الناس انه لا يوجد في هذه اللحظة إلا خطاب عبد الناصر أو السادات أو مبارك، برغم أنك مثلا كنت في الحقيقة تفكر في مشاهدة مباراة كرة قدم أو حتى تلعب دور كوتشينة، إلا أن الدولة تُشعرك أنك ستصبح خارج الزمن، وأن الوطن في هذه اللحظة يناديك وعليك أن تلبي النداء وتترك اللى وراك واللى قدامك لتتابع مراسم استقبال الرئيس، القنوات الخاصة بالغت أكثر من قنوات الدولة في إثبات أن كل شئ في الدُنيا مؤجل حتى إشعار آخر. الآن صار هذا الفكر الإعلامي يعود بك على الفور إلى مشهد سعيد صالح في "مدرسة المشاغبين" مطلع السبعينيات، عندما التقط سعيد تلك اللمحة بهذا التعبير اللحظي سنتنضموووو معلنا قدوم الزعيم، الحقيقة أننا لا نزال في سنة أولى اعلام أقصد "كي جي وان"، هم يريدون توصيل رسالة بأنهم على الموجة، فتتغير الخريطة وتتوقف البرامج الأخرى والكل عليه أن يطوع نفسه للحدث الذي يوصف عادة بأنه تاريخي، وبدلا من تحقيق الهدف لا يدركون أنهم يتجاوزون إعلاميا مرحلة التشبع، التى تعني أن المتلقي لا يمكن أن يتحمل المزيد. الأحداث المثيرة والصاخبة صارت بمثابة خبزا يوميا، ولم يعد هناك ما هو غير مألوف نخرج من مؤتمر اقتصادي إلى قمة عربية، ثم من الممكن أن تتخيل بعد ذلك مثلا عودة عبد الله منصور لرئاسة اليمن كلها بالطبع أحداثا هامة ولكن لا ينبغي أن تتوحد كل الموجات عليها امنحوا الحرية للمشاهد والمستمع لكي يبحث عن الخبر الذي يريده ، موجات الإذاعة الرسمية مثلا كانت تنضم كلها مع كل استقبال في القمة العربية، كان يكفي مثلا "البرنامج العام" و"صوت العرب"، ولكن كان قرار رئيس الاتحاد هو أن الكل ينضم حتى محطة الأغاني التابعة للدولة غيرت من خريطة أغانيها بدلا من أن تستمع في الواحدة ظهرا إلى محمد عبد الوهاب وهو يغني "كل ده كان ليه" تجده يردد "أخي جاوز الظالمون المدي"!! دعونا نقلب معا صفحات الماضي القريب أعني حربي 67 و73، كانت هناك محطة غنائية وهى "ام كلثوم" هي الوحيدة التى تغرد خارج السرب، كل المحطات الإذاعية مع قناتي التليفزيون 5و9، فلم يكن لدينا غيرهما، كان الكل في عز الحرب يتابع ما يجرى على أرض المعركة بينما لدينا محطة واحدة لم تغير من خريطتها التى تُقدم يوميا، ولديها 30 شريطا بعدد أيام الشهر كل يوم تضع شريطا تبدأ بأم كلثوم والترتيب هو بعد ثومة عبد الوهاب ثم فريد الأطرش ونجاة وفوزي وشادية ومحرم وعدد آخر لنعود مرة أخرى في النهاية مجددا إلى "ست الكل". هذه الاذاعة ليست تابعة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون، بل كما قال لى الإذاعي الكبير أحمد سعيد متعه الله بالصحة والعافية، لها قصة تستحق أن تروى كانت الدولة تخشى على الأمن القومي عام 56 حيث كانت الإذاعة المصرية الكائنة وقتها في شارع الشريفين قبل إنشاء مبنى "ماسبيرو" مهددة بالقصف جوا فقررت أجهزة المخابرات إنشاء موجة إذاعية سرية لتبدأ إرسالها في حالة ضرب الإذاعة المصرية، وبعد انتهاء العدوان ظلت لدينا موجة احتياطي في حوزة الأمن القومي رأت الدولة أن تُقدم للناس عليها أغاني عاطفية وبدون الاستعانة حتى بمذيع وهي الإذاعة الوحيدة التى لا أحد يعرف على وجه اليقين أين موقعها على الأرض. ضبط الجرعة في الاعلام يحتاج إلى حرفة وذكاء وكثيرا ما أسرفنا وكثيرا ما ألمح سنتنضمووووو!!