تحقيق: رحمة ضياء، تصوير: عماد الجبالى تمسك خصلة من شعرها فتسقط في يدها، تنظر إليها بحسرة قبل أن تضع طرحتها وتحمل بعزم الصفيحة فوق رأسها، متجهة بخطى سريعة إلى الرشاح الذى يبعد نحو 100 متر عن منزلها. تقابل جارتها فى الطريق تحمل فى يدها دلوًا أفرغته للتوّ فى ذات الرشاح، تحيّيها دون أن تتوقف عن سيرها، تريد أن تتخلص سريعًا من رائحة البراز والمجاري التى تملأ أنفها، والتي تستقبلك بمجرد أن تصل إلى موقف قرية "أم دينار"، التابعة لمركز إمبابة بمحافظة الجيزة. يمتد الرشاح، تختلط فيه مياه الصرف الزراعي بصرف المنازل الذي تحمله نسوة القرية فوق رؤوسهن، في رحلة عذاب تتكرر من خمس إلى عشر مرات يوميًا، ويلقين به ليسبح فى مياه الرشاح العامرة بكل أنواع القاذورات والأوبئة. "أم دينار" واحدة من أكثر من 700 قرية محرومة من الصرف الصحي، حسب تصريح إعلامي حديث لوزير الموارد المائية والري، وفي اليوم العالمى للمياه "22 مارس"، ترصد صحيفة "الأهم" على أرض الواقع، معاناة سكان القرية التي تتشابه مع معاناة مئات القرى الأخرى المحرومة من الصرف الصحي، والتي تنتظر بصبر نفد منذ سنوات طويلة دورها فى خطط التنمية. الرَّشْح يغطى البيوت ومدرسة القرية "تعبنا والله، أرجوكم تشوفونا".. بحرقة تتحدث "أحلام محمد"، سيدة أربعينية من أهالي "أم دينار"، عن معاناتهم اليومية، نتيجة حرمان بيوت القرية من مواسير الصرف الصحي، "كل بيت فيه طرنش بيخزن مَيَّة الصرف المتجمعة من المسح والغسيل والحمامات، ولما يتملى بنفضيه بالجراكن ونرمى الوساخات فى الرشاح بعد ما بنشيلها فوق راسنا وإحنا مش طايقين الريحة لحد ما أقرعّينا ودماغتنا وجعتنا، ومافيش حد ماجالوش مرض، الصغير والكبير". المياه التي يتخلص منها الأهالى في الرشاح تعود إليهم مرة أخرى كما يقول "عبد الرافع الخولي"، وكيل مدرسة "أم المؤمنين" في "أم دينار": "البلد كلها عائمة على بركة مياه، والبيوت راشحة بمستوى متر ونصف وأكثر، غير الرشح داخل المدرسة والرشاح الملاصق لها، والروائح التي تصل منه تتعب عيون المدرسين والأطفال، ومنبع لأمراض الدنيا كلها". المسؤولون.. لم يحضر أحد عز الدين الحريري، صاحب مطبعة، كوّن مع عدد من شباب القرية صفحة على "فيس بوك" باسم "فريق التحدي والتغيير" لعل شكواهم تصل إلى المسؤولين: "نعرض عليها مشكلات بلدنا علشان نوصل صوتنا للمسؤولين، وطلبنا من خلالها من محافظ الجيزة الدكتور خالد زكريا ينزل أم دينار يشوف مشكلاتها، ويعملوا لنا شبكة الصرف الصحي، وينضفوا الرشاح اللي مليان بلاوي وجايب لنا المرض، أكتر من نص البلد عندهم فشل كلوي، والأهالي بتروح بنفسها مجلس المحافظة لكن محدش بيسأل فينا، ومافيش مسؤول دخل أم دينار، بنقول لهم مش عاوزين غير العدالة الاجتماعية وعيشة آدمية". الأهالي: مَيّة الحنفية فيها "دود".. وغصب عننا بنستحمّى وبنغسل منها الصرف الصحي ليست المشكلة المائية الوحيدة للقرية المحرومة ولكن أيضًا مياه الشرب، كما تحكي "شكرية عبد الحكم"، إحدى سيدات القرية: "كنا بنشرب من مَيّة الحنفية لحد سنة، لما عرفنا أنها ملوثة، وبقينا نلاقي فيها دود، وجبنا فلاتر في البيوت عشان تنضفها لكن معملتش حاجة، لحد ما الأهالي جمعوا وعملوا 3 محطات مياه من حوالي سنة، بندفع اشتراك شهري 5 جنيه عشان نملا منها، وكل بيت له إزازة واحدة في اليوم". ورغم تلوث المياه فإن الأهالي يضطرون إلى الاعتماد عليها: "بنقرف نغسل إيدنا منها بس غصب عننا بنغسل منها المواعين وبنستحمى منها، هنلاحق منين ده إحنا بناكل بعضينا عشان نملا إزازة واحدة من المحطة ولو مالحقناش بنروح نملا من حتة بعيدة اسمها الجزيرة". محطة المياه تفتح ساعتين.. ولكل أسرة زجاجة واحدة تفتح محطات المياه ساعتين في الصباح من ال8 حتى ال10، وتفتح مرة ثانية في العصر ساعتين إضافيتين لمن لم ينجح في ملء زجاجته الوحيدة في الصباح، تقول ربة المنزل "شيماء": "غصب عننا بتخليها تكفينا طول اليوم للشرب لكن بنغسل المواعين ونستحمى من مَيّة الحنفية اللى بتجيلنا من صهاريج من كفر حجازى ملوثة، بتوقّع شعرنا وبتعمل حساسية، بس ماقدمناش غيرها". وتتابع: "عيالي كلهم عندهم حساسية في جسمهم بسبب المَيّة، لما روحت أكشف الدكتور بيقولى غيّرى جو! طب أغيّر جو في أنهي حتة؟!". زجاجة في اليوم لا تكفي حاجة الأسرة لذلك تضطر هي وزوجها إلى استئجار سيارة والذهاب إلى محطة مياه الوراق لملء زجاجات مياه تعينهم على قضاء حاجاتهم فى الطبخ والشرب طوال الشهر: "بناخد أكتر من 25 إزازة كبيرة نملاها من هناك". أقرب وحدة صحية على بعد 20 كيلو مترًا مع كل هذا التلوث والأمراض التي تحاصر سكان القرية ليست هناك نجدة سريعة، فالمستشفى الوحيد في القرية لا توجد به أي أجهزة طبية أو أدوية، كما يؤكد الأهالي الذين يضطرون إلى قطع نحو 20 كيلو مترًا على الأقل لإجراء عملية ولادة أو عمل غسيل كلوي جراء إصابتهم بالفشل الكلوي، فكما تقول "وفاء ربيع"، ممرضة فى معمل تحاليل خاص في القرية: "حالات كثيرة تأتى إلينا مصابة بالفشل الكلوي، فلا يمر شهر دون أن تأتي أكثر من حالة فشل كلوي ولا يوجد في القرية أجهزة لعمل غسيل كلوي، فيضطرون إلى الذهاب إلى مستوصف الإسراء على بُعد 100 متر من القرية، أو الذهاب إلى الوحدات الصحية البعيدة عن القرية، مرتين أو ثلاثة فى الأسبوع لغسل الكلى". المحافظة: نستهدف حاليًا توصيل المياه إلى 36 قرية.. و"أم دينار" في المرحلة المقبلة! من جانبه، قال اللواء محمد الشيخ، السكرتير العام لمحافظة الجيزة، في تصريحات ل"الأهم": "هناك خطة تستهدف تغذية القرى المحرومة من الصرف الصحي ومياه الشرب داخل محافظة الجيزة، بشكل متتابع حيث يتم تخصيص نسبة من الموازنة الخاصة في المحافظة كل عام لهذا الغرض، وبالفعل تم تركيب المواسير لنحو 40 ألف متر بالمحافظة سيبدأ عملها مع أعياد المحافظة القادمة لمناطق حدائق الأهرام وبعدها العمرانية وبقية قرى الجيزة تباعًا، إضافة إلى مشروع محطة مياه إمبابة لتغذية قرى شمال الجيزة. وأضاف: "انتهينا بالفعل من تغذية 28 قرية من بينها برطس وسقيل وصيدة والحسانيين والقيراطيين والمناشى وذات الكوم وبهرمس، وهناك 12 قرية جارٍ العمل بها من بينها كومبرة وكفر حكيم وعزبة غيطان وعزبة حكيم والمعتمدية وكرداسة وبرك الخيام وناهيا وبنى مجدول، ومنطقتان تم الانتهاء من تغذيتهما ومتوقفتين على إجراء جهاز التعمير بأعمال الربط وهي مساكن ومطار إمبابة، والقرى المتبقية في هذا المشروع خمس قرى منها برقاش وصفط اللبن ومنشية رضوان وأبورواش". وبسؤاله عن موقف "أم دينار"، قال إنها لا توجد فى الخطة الحالية وستشملها الخطة المقبلة. رئيس شركة المياه والصرف الصحي: 750 مليون جنيه سنويًّا لتغذية القرى المهندس ممدوح رسلان، رئيس الشركة القابضة للمياه والصرف الصحي، قال ل"الأهم"، إن هناك 750 مليون جنيه سنويًا يتم منحها للشركة مقابل أعمال الصيانة الدورية، وتغذية القرى المحرومة، مشيرًا إلى أنَّ خطتهم المقبلة تضع الأولوية لعدد من المحافظات على رأسها البحيرةوالجيزة والشرقية وبني سويف لمحاولة التخفيف من حجم المشكلة قبل حلول الصيف.