في تمام السادسة صباحًا، تخرج سيدة عجوز متشحة بالسواد، لا يظهر من ملامحها سوى عينيها وجزء صغير من أنفها، من داخل منزل متهالك ومتآكل الجدران، وسط قطيع من الأغنام والماعز، تنظم حركة سير القطيع بكلمات غريبة غير مفهومة.. "هري" تقولها السيدة بصوت عالٍ فتسير الأغنام بانتظام. الأهالي يشربون المياه الجوفية.. ويزرعون الأراضي بمياه الصرف الصحي وبعد مضي ما يقرب من ساعة، وفى نفس الشارع، يخرج الطفل سالم ذو الوجه الأسمر والشعر الطويل، برفقة اخته الصغيرة، راكبين على ظهر "حمار" في طريقهم لتعبئة جراكنهم بالماء قبل أن يزدحم البئر. وعلى مسافة قريبة من البئر، يجلس الشيخ طلال الذي تركت الشيخوخة أثرًا واضحًا على وجهه، ممسكًا ببعض أعواد الحطب ويشعل النار فيها تحت "القصعة" ليضع عليها قطع من العجين مخلوطة من الدقيق والقمح والذرة ويقلبها حتى تتحول لأقراص من الخبز. قرية في طي النسيان تلك المشاهد تكشف طبيعة المعيشة في قرية "العمارين" التابعة لمحافظة الجيزة والتي تبعد عن مركز الصف بعدة كيلو مترات. القرية المنسية يزيد عدد سكانها عن ال10 آلاف نسمة، ولم يحصل أطفالها على حقهم في التعليم، ولا يعرف التجنيد شبابها، تحتضنها الجبال من كل ناحية، وأغلب سكانها يعيشون على نور القمر، فهي منطقة خالية من الخدمات، سواء طبية أو تعليمية، ويعيش أهلها على رعاية الأغنام وشرب مياه الآبار. الطين والجريد لم يكن الدخول لقرية العمارين أمرًا سهلًا، فجميع أهلها يعرفون بعضهم بعضًا، وإذا دخل غريب بينهم، فسرعان ما تحلق فيه الأعين وتشير إليه الأصبع، وتتوالى عليه الأسئلة، من أنت؟ وماذا جاء بك إلى هنا؟ "التحرير" استطاعت أن تخترق القرية، وتتغلب على صعاب كثيرة، وتسير وسط شوارعها الرملية، على الجانبين وجدنا البيوت مبنيه من الطين والجريد الذى التصقت به الأتربة فجعلت لونه باهت. وظائف أهل القرية أمام أحد المنازل يجلس عدد من الشيوخ يشعلون الحطب لعمل القهوة، من بينهم الشيخ حسن أبو عودة، صاحب ال50 عامًا، وفي يده "منجل"، وعلى أصابعه أثر البرسيم الأخضر، بعد عودته من أرضه الواقعة عند الجبل، والتي يقوم برعايتها وزراعتها مثل أغلب قاطني القرية، الذين يعيشون على الزراعة وتعد مصدر رزقهم الوحيد، ويزرعون محاصيلهم – التي لا يأكلون منها – باستخدام مياه الصرف الصحي. زراعة المرض سألنا حسن، أحد أهالي القرية، عن سبب استخدام مياه الصرف الصحي في الزراعة داخل القرية، فقال: "إحنا عارفين إننا بنزرع أذى ونحصد مرض.. ولكن هنعمل إيه مافيش أى حاجة نشتغل فيها غير الزارعة زى ما طلعنا لقينا أهالينا بيشتغلوا فيها". وأكد أن الأمر الذي دفعهم للزراعة بشكل مخالف هو تلف التربة الزراعية التى تشرب من ماء النيل، حيث أنه من حوالى 10 سنوات تدهور حال الأراضي وبدء الملح يطفو فوق التربة والمياه الجوفية بدأت تغمرها إلى أن غرقت بقعة زراعية عملاقة في المياه الجوفية وتحولت الأراضي الزراعية ذات التربة الطينة إلى برك ومستنقعات تكسوها الحشائش الغزيرة، متابعًا " الحكومة لم تنظر لنا بعين الرحمة ولم تهتم بنا، ولم تقم بتحليل هذه المياة لمعرفة مصدرها لمحاولة إعادة الروح لما يقرب من 500 فدان راحت ضحية تهميش الحكومة لنا لأنها لا تعترف بالفقراء". حسن أرجع لهذه الأسباب، اتجاه أهالي القرية لزراعة الصحراء، قائلًا: "لم نجد أمامنا سوى مياه الصرف الصحي لري الأرض ولو لم نفعل ذلك لمات أطفالنا من الجوع". المربوعة استكملنا رحلتنا داخل القرية، واصطحبنا عيد، الذي لم يتعدى عمره الخامسة والعشرين، إلى منزله الصغير، لنجلس في "المربوعة"، وهي حجرة واسعه مبنية من الطوب النيئ جدرانها قصيرة، وسقفها يتكون من ألواح الخشب، قد يغلب عليه اللون الأسود من شدة الدخان بها مسامات واسعة تتسلل من خلالها أشعة الشمس لتنير الحجرة الضيقة، فى وسط الحجرة يوجد "منقد" من الطين فى قلبه يشتعل الفحم، فوقه "كنكة " ذات يد سلكية طويلة لعمل الشاي. أحلام الشباب حدثنا عيد قائلا: "هذا المنزل البسيط أسمى طموحات شباب قريتنا فالكل يتعلق سقف أحلامه على بيت بسيط من الطين مسقف بألواح من الخشب ليكمل فيه نصف دينه". عيد أكد أن معظم الشباب لا يعرفون التجنيد ولا يعرفون طعم الغربة قائلا: "نحن لا نخرج من جحورنا لأننا لا نجيد القراءة أو الكتابة وبعضنا يعمل كغفر في المناطق الجبلية المملوكة لأصحاب الأموال ومواقع البناء الجديدة، والبعض الآخر يعمل في تربية الأغنام ورعايتها على الحشائش والنباتات الصحراوية". وأثناء الحديث طرق الباب ودخل سيد، أحد شباب القرية، تظهر عليه ملامح الحزن قائلا إن ابنته الصغيرة تعاني من آلام فى المعدة وارتفاع في درجة الحرارة، ولم يجد سيارة لنقلها إلى مستشفى الصف المركزي والتى تبعد عن القرية بحوالى 10 كيلو متر. وقال سيد: "هي ليه الحكومة ما بتبصش لينا؟ إحنا بقالنا 300 سنة عايشين عيشة بدائية. ليه ما عندناش مستشفى نعالج فيها ولادنا اللي بيموتوا قبل ما يوصلوا للمستشفى البعيدة، هو إحنا مش بنى آدمين ولا إيه". يأكلها التمساح ولا يأخذها الفلاح عندما اقتربت الشمس من المغيب، التقينا بفتاة في العشرين من عمرها، تتقدم قطيع من الأغنام، تلمع عيناها من تحت "البرقع"، وهي تقول: "أغلب بنات القرية هنا يعملن على رعاية الغنم وحلب الإبل وعمل الرقاق على الصاج لأن المنطقة لا توجد بها فرن عيش". واستكملت الفتاة: "البنت تنتظر في بيت أبيها حتى يأتي نصيبها وتتزوج من أحد أبناء القرية"، لافته إلى أن كل بنات القرية لا يتزوجن إلا من أبناء قريتهم، وإذا جاء غريب عن القرية وطلب الزواج منا نقول له "يأكلها التمساح ولا يخدها الفلاح"، وتوضح: "الفلاح هنا نقصد به ابن البندر لأننا بدو نعتز بعاداتنا وتقاليدنا". وأضافت الفتاة التى تدعى "غندورة" أن نسبة العنوسة مرتفعة وسط بنات القرية، وذلك بسبب الوضع المادي السيئ لمعظم الشباب، مؤكدة أن الفتاة منذ أن تتم خطبتها تمكث فى بيت أبيها ولا تخرج منه إلا على بيت زوجها ولا يراها عريسها ولا تراه إلا يوم الزفاف فقط. الخوف من المدرسة في شارع آخر تتعالى أصوات ضحك الأطفال وترتسم البسمة على وجوههم وهو يلعبون "السيجة"، وعندما سألنا عن عدم قضاء أوقاتهم فى المذاكرة، ردت "بدور" الطفلة الصغير بصوت حزين "إحنا مش في مدارس لأن المدرسة بعيدة عننا وما حدش من أطفال العرب بيروحها وأهالينا بيخافوا علينا، والمتعلم عندنا بنعيب عليه ونقول إنه (استفلح) وبقى زي بتوع البندر". قاطعها طفل آخر يدعى سالم قائلا: "لا يا بدور هم لو عملوا مدرسة في بلدنا والله لنروح هو العلم وحش؟ أنا كان نفسي أطلع دكتور بس النصيب بقى". واستغل الشيخ محمود الضبع، أحد عواقل المنطقة وجودنا هناك ليبعث رسالة لمحافظ الجيزة، يحمله فيها مطالب الأهالي، وأولها أن ينظر بعين الرحمة لهذة القرية الفقيرة، وأن يتم إنشاء مدرسة ليتعلم فيها أبناء القرية حتى تنضج العقول وتتغير العادات السيئة ونرتقي بقريتنا. كما طالب بعمل مخبز عيش مدعم كي يستنفع منه أبناء القرية بالإضافة إلى توفير مياة الصنابير بدلا من شرب مياة الآبار، وإنشاء وحدة صحية خاصة لعلاج أبناء القرية لأن هناك حالات كثيرة توفت قبل أن تصل إلى المستشفى المركزي التى تبعد عن القرية بمسافة كبيرة. وطالب أيضا من المجلس المحلي بمركز الصف أن يقوم برصف شوارع المنطقة حتى يستطيع الأهالي السير فيها لأن كل الشوارع رملية. الدكتور خالد زكريا العادلي، محافظ الجيزة الجديد، قال إن ملف تطوير العشوائيات من أهم أولوياته، مؤكدا أنه سوف يتم تخصيص جزء من ميزانية المحافظة لتطوير مركز الصف بالاشتراك مع هيئة الأبنية التعليمية، ووزارة الصحة، مشيرًا إلى أنه سوف يتم حصر الأماكن التى لا توجد بها خدمات لتوفير الخدمات بها في أقرب وقت. وأبدى العادلي استغاربه عندما سمع عن اسم قرية العمارين قائلا: "صراحة أول مرة اسمع عنها"، لافتا إلى أنه سوف يخطر اللواء أسامة شمعة مساعد المحافظ لشئون المراكز، بأن يستدعي رئيس مركز مدينة الصف للنقاش حول تلك القرية المحرومة وعن عدم تواجده مع الناس بالشارع. وأكد المحافظ أن عصر الملفات المكتبية انتهى وحان عصر الجولات الميدانية والاستكشاف الذاتي، مضيفا أنه سوف ينزل بنفسه في أقرب وقت إلى مركز الصف لسماع شكاوى أهل المركز والوصول إلى القرى المحرومة. من جانبها، كشفت الدكتورة ليلى اسكندر وزيرة التطوير الحضري والعشوائيات، ل"التحرير" عن قيامها بتوقيع بروتوكول بين وزارة التنمية المحلية ووزارة المالية، لتخصيص 25% من حصيلة الضرائب العقارية، لتطوير العشوائيات بكافة المحافظات. وأوضحت إسكندر، أنه تم تقدير الحصيلة بقرابة المليار جنيه بداية العام الحالي، مما يعني زيادة معدلات التطوير في كافة المناطق ذات الأولوية، حيث تعتمد رؤية الوزارة على الإضافة لما بعد الإسكان،لافته إلى أنه سوف يتم قريبا عقد برتكول تعاون بين الوزارة ومحافظة الجيزة لتطوير الأماكن الفقيرة وإعادة تأهيلها وسوف نقوم بزيارة تلك القرية ونسمع مطالبهم ونحاول بقدر الامكان تلبيتها على الفور.