تلقى الأوضاع المتفاقمة فى اليمن بظلال كثيفة على التوازنات الإقليمية فى الشرق الأوسط، ويأتى على رأس التهديدات التى تشكِّل خطرًا كبيرًا ضمان سلامة المرور فى مضيق باب المندب الذى يكتسب أيضًا بُعدًا دوليًّا، إذ تمر فيه فى الاتجاهين قرابة 21000 قطعة بحرية متنوعة فى وظائفها التجارية والمدنية والعسكرية ويعدّ من أكثر المضايق أهمية فى العالم، لأنه يربط خط المرور البحرى الأهم بين دول أوروبا كافة وجنوب شرق آسيا وشرق إفريقيا، وقد أصبح وسيلة اتصال دولية للملاحة البحرية منذ افتتاح قناة السويس، كما أن أهميته تمتد من زاوية أخرى فى الارتباط بمضيق هرمز، حيث يقدّر حجم بترول دول الخليج الذى يمر عبر باب المندب فى اتجاه دول أوروبا وشمال القارة الأمريكية بنحو 60% من احتياجات هذه الدول. وقد منح الموقع الجغرافى لليمن الميزة الاستراتيجية الكبرى مقارنة بالدول الإفريقية المطلة عليه من ضفته الغربية بسبب وجود جزيرة ميون - بريم ، طبقًا لتسمية المستعمر البريطانى، فى مدخله، وهذه الجزيرة تشطره إلى ممرين، أولهما: الشرقى، ويسمّى باب إسكندر وهو الأصغر، وعمقه نحو 30 مترًا، بعرض 3 كم فى المسافة بين الشاطئ اليمنى وجزيرته، لذا يُصنَّف قانونيًّا ضمن إطار المياه الداخلية للدولة، ولا يحقّ لأى سفينة دخوله إلا بإذن مسبق، لأنه يخضع للسيادة المطلقة لليمن، ولا تنطبق عليه حرية المرور العابر (هو حق المرور الحر دون أى قيود كما لو كان المرور فى مياه دولية)، أو حق المرور البرىء (أن تمر السفن دون أى تعرض أو تعامل مع أنشطة موانٍ أو شواطئ الدولة المطلة على الممر البحرى، وأن لا تمر الغواصات وهى غاطسة تحت الماء). ثانيهما: الغربى، ويسمّى دقة المايون ، وهو الممر الأكبر، إذ يقع بين جزيرة ميون والساحل الإفريقى، ويعدّ مياهًا إقليمية للدول المطلة عليه، وهى: اليمن، وجيبوتى، وإرتيريا، وعمقه بين 100-200 متر، وإجمالى عرضه لا يقل عن 20 كم، وعرض ممر عبور السفن 16، لهذا يتيح للسفن وناقلات النفط العملاقة العبور فى اتجاهين متعاكسين، أما بالنسبة إلى الملاحة البحرية، ولأن المضيق يطلّ على شواطئ أكثر من دولة، فهو يخضع لسيادتها المشتركة، ويعدّ مياهًا إقليمية ويخضع لمبدأ حق المرور البرىء، وتُمارس كل دولة من الدول سلطاتها عليه بقدر مساحة بحرها الإقليمى، وهى 12 ميلًا بحريًّا، استنادًا إلى المادة 15 من الاتفاقية الدولية للأمم المتحدة لقانون البحار الصادر فى عام 1982، لكن يبقى لليمن بطبيعة جرفها القارى الذى يربط من خلال المضيقالبحر الأحمر بأعالى البحار (خليج عدن والمحيط الهندى)، إضافة إلى موقع جزيرة ميون (8 كم2) حظٌ أوفر فى السيطرة على المضيق. مع كل الحقائق السابقة الكاشفة لطبيعة وأهمية باب المندب يصبح من الأهمية استقرار نظام الحكم فى اليمن، وعدم تعرضه لهيمنة أى قوة سياسية ترتبط بأجندات خارجية أو ذات طبيعة متطرفة يمكن أن تنعكس صراعاتها الداخلية أو توجهاتها على سلامة الموقف فى صنعاء، ما دامت لا توجد مخاطر أو انتهاكات مباشرة تؤثِّر على مصالحها، وهنا تظهر خطورة استفحال النفوذ الحوثى فى المشهد السياسى اليمنى، وما يمكن أن يتبعه من مخاطر على المضيق، تلبية لإرادة إيرانية -حيث لا تخفى الرابطة بينهما- ويمكن أن يحدث هذا بأحد أسلوبين، أولهما: باستخدام أسلوب الزيارة والتفتيش فى هذا المضيق الملاحى العالمى، على غير ما يسمح به القانون البحرى والاتفاقيات الدولية، مع الأخذ فى الاعتبار وجود عناصر من قوات حلف الناتو لتأمين حركة الملاحة العالمية وحماية السفن بعد عمليات القرصنة من عناصر صومالية مسلحة، وثانيهما: الاعتراض المسلح للسفن العابرة، وهذا أمر لا يمكن أن يتجاوز أيامًا قليلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، لأن القوات البحرية اليمنية باعتبار هيمنة الحوثيين عليها ليست ذات قوة تستطيع أن تواجه بها دول البحر الأحمر، وعلى رأسها القوات البحرية المصرية الموجودة فى قاعدة البحر الأحمر، وهى قادرة على حسم هذا الوضع الافتراضى بسرعة فائقة وتأمين المضيق بالتعاون مع البحريات العربية الأخرى. لا جدال أن العبث بهذا الممر الحيوى يمثِّل خطًّا أحمر لمصر، لأنه يخنق قناة السويس، أحد مصادر الدخل القومى المهمة، كما أنه يعيق إقليميًّا ناقلات البترول القادمة من دول الخليج، ويرفع من تكلفة النقل البحرى للتجارة الدولية بين الشمال والجنوب، لذلك يمكن القول إن الإقدام على مغامرة تمسّ سلامة المرور فى باب المندب يمكن أن تترك تداعيات ضارة، لكنها لن تتواصل إلا لزمن ضئيل، لعدم وجود قوة عسكرية قادرة على الاستمرار، وعمق الممر أصعب من سده بإغراق قطعة بحرية أو أكثر، وفى النهاية فإن احتمال تهديد المضيق ضعيف، لكنه قائم، ويبقى أن كل هذه الاحتمالات النظرية السابقة تتحدَّث فى إطار صراع سياسى لم يرقَ إلى مستوى الحرب واندلاع صراع مسلح، لأنه فى هذه الأوضاع تصبح كل الخيارات مفتوحة.