هناك فيلسوف وشاعر ومسرحى وناقد فنى ألمانى كبير يدعى ليسينج (جوتهولد أفرايم ليسينج 1729-1781)، ورغم أنه من أهم رموز عصر التنوير الأوروبى، فإن شهرته فى بلادنا لا تتعدى الحلقة الضيقة من المتخصصين وأصحاب الثقافة الرفيعة.. هذا الرجل أفصح فى كتاب نقدى مهم وتأسيسى نشره تحت عنوان «دراما هامبورج»، عن معنى خطير لفكرة «البطل» فى الدراما وجاوب عن سؤال مَن هو البطل الذى يدخل قلب جمهور الناس ويكسب عواطفهم؟ قائلا: «ليس فى وسعنا أن نشعر بعطف إنسانى إلا تجاه أبطال من بشر مثلنا، نستطيع أن نندمج معهم ونتماهى فيهم.. لذلك من الضرورى أن يكون البطل قادرا على ارتكاب الخطأ كما يجترح الصواب.. نعم يجب على البطل الدرامى أن يتحلى بالقدرة على فعل الخطأ وأن يسقط أحيانا كما نسقط نحن، ذلك أن المصير التراجيدى الذى قد ينتهى إليه بطل إنسان تكمن عقدته فى محاولته تجاوز ضعفه البشرى ونقصه وعدم اكتماله».. (لأن «الكمال لله وحده» كما تقول ثقافتنا). هذا المفهوم ل البطل الذى لا يجرده أو يحرمه من إنسانيته، وإنما يبقيه حيًّا فيها، ولا يأخذه منها عنوة لكى يشرده فى صحراء خرافة وسطحية السوبرمان ، حيث القوة خارقة، والفضيلة تامة، والصواب مطلق، التقطه واشتغل عليه (بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن على موت ليسينج ) المسرحى الألمانى الكبير جورج بوخنر، فى مسرحية موضوعها واحد من الفصول الدموية للثورة الفرنسية، إذ حكت حكاية جورج دانتون الذى هو أحد أكبر قادة وأبطال هذه الثورة، لكنها أكلته (كما الكثير من زملائه) إذ مات على مقصلة صديقه ورفيقه روبيسبير (مات هو أيضا عليها)!! المسرحية عنوانها موت دانتون ، وتأخذ أحداثها شكل مدونة تاريخية تروى كيف حدث الفراق بين هذين الصديقين، فقد أدرك دانتون بعد صعود رفيقه روبسبير إلى السلطة وإطلاقه عاصفة العنف و الإرهاب الثورى ، أن الثورة لم تتمكن بعد من الوصول إلى أهدافها الحقيقية، وأنها تتعثر فى نقل شعاراتها النبيلة (الحرية، والإخاء، والمساواة) من فضاء الهتاف إلى أرض الواقع.. لماذا؟ لأن هذا الواقع متخم بأثقال وعوائق هائلة موروثة من الماضى الأليم الطويل، ومن ثمَّ ليس بالإمكان بناء المستقبل وتحقيق الأحلام والأمانى الرائعة بين ليلة وضحاها.. وانطلاقا من اقتناعه بهذه الحقيقة قرر التنحى عن صدارة المشهد الثورى الملطخ بالدم، وأن يبتعد ويغوص فى بحر ملذاته الشخصية، تاركا روبسبير يمضى فى طريقه القاسى الصارم، ويحارب وحده من يعتبرهم أعداء الثورة . غير أن البعد والغرق فى الملذات لم ينقذ القائد الثورى المعتزل من مقصلة صديقه، فبعد أن يواجه هذا الأخير بشجاعة ويبلغه صراحة أن حمام الدم ليس طريقا لانتصار المبادئ النبيلة ، يصبح فورا عدوا للثورة وخصما لروبسبير، الذى تعلل أمام صديقه السابق بأن الفضيلة لا يمكنها أن تنتصر إلا بالخوف.. هذه هى الطبيعة الإنسانية .. هكذا قال!! تمضى المسرحية حتى النهاية فى وصف ما جرى حتى تم إعدام دانتون ، لكن مبدعها بوخنر لم يشأ أن يبلغنا رأيا محددا فى بطلها ولا فى صديقه.. لم يقل لنا من هو الأكثر بطولة من الآخر، هل هو روبسبير العنيف المتقشف، أم دانتون الرقيق الحكيم الغارق فى الملذات؟! كلاهما أخطأ، وكلاهما إنسان ضعيف، ومن ثم يستحق أن يكون بطلا فى الدراما المسرحية ، على الأقل.